|
الدور التربوي والاجتماعي للمسجد |
القراء :
37549 |
الدور التربوي والاجتماعي للمسجد د. ممدوح الصدفي محمد أبو النصر أستاذ أصول التربية ونائب رئيس جامعة الأزهر للدراسات العليا والبحوث د. محمد عبد السميع عثمان أستاذ الخدمة الاجتماعية وتنمية المجتمع وعميد كلية التربية بجامعة الأزهر د. عبد البديع عبد العزيز الخولي أستاذ التربية الإسلامية ورئيس قسم أصول التربية الإسلامية بكلية التربية بجامعة الأزهر فهـرس o تقديم o مدخل o مقدمة o المسجد ومكانته o أسس الدعوة الإسلامية في المسجد وأساليبها o الأدوار التربوية والاجتماعية للمسجد أ) الرسالة الروحية للمسجد ب) الرسالة التعليمية للمسجد ج) المسجد وتعليم المرأة د) المسجد والمكتبة هـ) المسجد دار إغاثة ورعاية اجتماعية وصحية و) المسجد دار للغريب ز) المسجد دار علاج وتطبيب ح) المسجد مكان لعقد الزواج ط) المسجد دار للقضاء ي) الرسالة العسكرية للمسجد ك) المسجد مكان لاستقبال الوفود والسفراء ل) الدور الإعلامي للمسجد م) المسجد دار للشورى ن) المسجد ونظافة البيئة س) المسجد بإدارته o 4. نماذج لمساجد حفل بها المجال التربوي والاجتماعي أ) المسجد النبوي ب) الجامع الأموي في دمشق ج) مسجد البصرة د) مسجد الكوفة هـ) جامع المنصور ببغداد و) جامع قرطبة بالأندلس ز) جامع القرويين بالمغرب ح) جامع عمرو بن العاص بالفسطاط ط) الجامع الأزهر o 5. سبل الإفادة من المسجد في وقتنا الحاضر o 6. المراجع
تقديم أدى المسجد عبر التاريخ الإسلامي أدواراً عظيمة الشأن بالغة التأثير في المجتمع الإسلامي، فكان البيتَ الجامعَ الذي يختلف إليه المسلمون للعبادة ولتسيير شؤونهم العامة، ولتدبير أمور دنياهم، فيه يقف المسلم بين يديّ خالقه، خاشعاً متضرعاً، يرجو رحمة ربه، ويسعى إلى تربية روحه وتزكية نفسه على مكارم الأخلاق التي دعت إليها الشريعة الإسلامية، من فضيلة، ومحبة، وتسامح، ومساواة، وعدالة، وتضامن اجتماعي بين أفراد الأمة الإسلامية، وهو في الوقت نفسه مؤسسةٌ تعليميةٌ وتثقيفيةٌ يفد إليها المسلمون لتعلّم القراءة والكتابة، والنهل من ميادين العلم والمعرفة. وإلى جانب الرسالة الروحية والتربوية والتعليمية للمساجد، فقد قامت بأدوار اجتماعية مهمة، تستعرضها هذه الدراسة التي تحمل عنوان "الدور التربوي والاجتماعي للمسجد"، والتي تنشرها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة. كما تستعرض هذه الدراسة أيضاً نماذجَ من المساجد الجامعة الشهيرة، مثل المسجد النبوي في المدينة المنورة، والجامع الأموي في دمشق، ومسجد البصرة، ومسجد الكوفة، وجامع المنصور في بغداد، وجامع قرطبة في الأندلس، وجامع القرويين في فاس بالمغرب، وجامع عمرو بن العاص في الفسطاط (القاهرة)، والجامع الأزهر في القاهرة بمصر. ويسعد المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بالتعاون مع رابطة العالم الإسلامي نشر هذه الدراسة الموثَّقة التي عهدت بإعدادها إلى مجموعة من الأساتذة من جامعة الأزهر، والتي تهدف إلى توفير معلوماتٍ عن دور المسجد عبر التاريخ، وتــوثـيق الصـلـة بــين المســجد وبــين محـيطـه، مــن خـلال إحــياء دوره في حلّ مشكلات المجتمع، وإعادة الاهتمام بالأدوار المختلفة التي كان يقوم بها، مثل إقامة المشاريع التي تسهم في تنمية المجتمع، من تعليم الكبار، ومحو الأمية، وتبنّي مشروعات صحية، وإقامة مشاغل للفتيات، وبناء دور للمشردين، وإنشاء صناديق للزكاة. نسأل الله أن يكون هذا العمل ذا نفعٍ لأبناء الأمة الإسلامية، والله من وراء القصد. د. عبد العزيز بن عثمان التويجري المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة د. عبد الله بن صالح العبيد الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي مدخل إن دارسي الحضارات الإنسانية وعلاقتها بالدين يقفون بإعجاب أمام الحضارة الإسلامية التي نمت بين جوانح الجوامع وشملت باهتماماتها علوم الشريعة واللغة وعلوم الكون والحياة، وكانت حلقات المساجد نقطة الانطلاق فيها، والبيئة التي رعت كل ثمار العقل الإنساني. ومنذ نزلت \ اقرأ باسم ربك الذي خلق \(1) في غار حراء على رسول الله محمد بن عبد الله، معلّم هذه الأمة، عليه الصلاة والسلام، والعلم والتعليم يرتبطان بالعبادة في الإسلام، وكان المسجد هو أهم مؤسسات التربية الإسلامية، ففي حلقاته ازدهرت كل العلوم، وارتقى الإنسان المسلم علماً وفكراً وفلسفةً وعبادةً في فترات الرقيّ والتحضر الإسلاميين. لهذا كان اهتمام الباحثين بالمسجد ذي الدور العظيم في الدولة الإسلامية، فتحدثوا عن المسجد ومكانته في الإسلام والأسس التربوية للدعوة الإسلامية فيه، والأدوار المتكاملة التي يقوم بها المسجد في المجتمع المسلم، مما جعل للمسجد آثاراً كبيرة في تربية المجتمع المسلم لا توجد لمؤسسة أخرى تجمع بين العلم والعبادة والرعاية الشاملة لأبناء المجتمع. وما أحرانا أن نتمثَّل هذه الأدوار الكبرى للمسجد، فنعيشها في وعيٍ بالدين وأهدافه واستخدامٍ لسبله الوطيدة، بعيداً عن التزمت والانغلاق، بل برحابة صدر والتزام بالإسلام وقيمه السامية، ولا يكون ذلك إلا بالارتباط العميق بالمسجد كما أراده الله لهذه الأمة. الباحثون
مقدمة : تعنى التربية بإعداد الأفراد وتشكيل شخصياتهم وكذا النهوض بالمجتمعات، وذلك من خلال مؤسساتها المختلفة المدرسية منها واللامدرسية. ولكي يتم اكتساب الخبرات التربوية المطلوبة، فإنه ينبغي ألا يكون هناك تناقض بين هذه المؤسسات فيما تؤديه من أدوار. فالتكامل بين مؤسسات التربية المدرسية واللامدرسية يحقق للعملية التربوية أهدافها. والمسجد واحد من أهم هذه المؤسسات الذي كان له دور كبير في المجتمع الإسلامي عبر العصور المختلفة، ففي مجالس علمائه دونت علوم القرآن والحديث والفقه واللغة، وفي صحنه وأروقته تلقت جماهير المسلمين العلم والمعرفة على اختلاف مجالاتها. فضلاً عن أدواره الاجتماعية العديدة التي نمت من خلاله في تحقيق الروابط وآصرة الأخوة بين المسلمين، وكذا دعم الانتماء للأسرة والمجتمع دون تعصب. وغير ذلك من الأدوار في مجال السياسة والقضاء والإفتاء، إلى جانب المساهمة مع غيره من المؤسسات في مواجهة المشكلات التي تعوق حركة التنمية في المجتمع. كل هذا وغيره جعل من المسجد مؤسسة تنموية على مدار العصور. والحاجة الآن ماسة إلى الإفادة من المسجد في خدمة المجتمع والنهوض به، من أجل مواجهة التيارات المختلفة التي تحاول العصف بالعالم الإسلامي. وفي الصفحات التالية نعرض الدور التربوي والاجتماعي للمسجد في النقاط التالية : أولاً : المسجد ومكانته. ثانياً : الأسس التربوية لأساليب الدعوة الإسلامية في المسجد. ثالثاً : الأدوار التربوية والاجتماعية للمسجد وأثرها في تنمية المجتمع الحديث. رابعاً : نماذج لمساجد أَثْرَت المجالَ التربوي والاجتماعي. خامساً : سبل الإفادة من المسجد في وقتنا الحاضر لتنمية المجتمع.
أولاً : المسجد ومكانته للمسجد في الإسلام مكانة سامية ترتبط بوظيفته التي تنهض بالفرد والمجتمع. وسوف نعرض لتعريف المسجد ثم لأهميته. المسجد في اللغة : المسجد بالكسر اسم لمكان السجود. المسجد في الشرع : يطلق على المكان المعد للصلوات. قال الزركشي : >كل مكان يتعبد فيه فهو مسجد لقوله صلى الله عليه و سلم : >وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً والجامع : نعت للمسجد لأنه مكان اجتماع الناس، وإذا كانت تقام فيه الجُمَع أطلق عليه "المسجد الجامع". وفي ذلك يقول المقريزي : ولما افتتح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب البلدان كتب إلى أبي موسى الأشعري وهو على البصرة يأمره أن يتخذ مسجداً للجماعة ويتخذ للقبائل مساجد، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة، وكتب إلى سعد بن أبي وقاص، وهو على الكوفة، بمثل ذلك. وكتب إلى عمرو بن العاص بمثل ذلك وهو على مصر. والمسجد هو أحبّ البقاع إلى الله تعالى. فهو قلعة الإيمان وحصن الفضيلة، وهو بيت الأتقياء ومكان اجتماع المسلمين يومياً. وهو مركز مؤتمراتهم ومحل تشاورهم وتناصحهم، والمنتدى الذي فيه يتعارفون ويتآلفون وعلى الخير يتعاونون. لذا كان المسجد أول شيء يهتم به النبي صلى الله عليه و سلم حين قدم المدينة حيث أرسل إلى ملأ من بني النجار فقال : >يا بني النجار ثامنوني لحائطكم هذا<، قالوا : والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. وكان فيه قبور المشركين فنبشت، ثم بالخرب فسويت، وبالنخل فقطعت، فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادته الحجارة، وجعلوا ينقلون الصخر، وهم يرتجزون، والنبي صلى الله عليه و سلم معهم وهو يقول : >اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرين<.
فكان بناء المسجد أول المهام التي بادر رسول الله إلى إنجازها منذ الهجرة الشريفة، فبنى لله مسجداً قبل أن يبني لنفسه بيتاً في المدينة المنورة. وذلك لأهمية المسجد في بناء الشخصية المسلمة وتنشئتها. وكان هذا منهج الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين من بعده حتى توالى بناء المساجد مع الفتوحات الإسلامية. ولأهمية المسجد في الإسلام رغب الدين الحنيف في بناء المساجد وعمارتها، وقال تعالى : \ إنما يَعْمُر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يَخْشَ إلا اللهَ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين \. فرغب النبي، عليه السلام، في بنائه ووعد بالثواب العظيم والأجر الجزيل على ذلك : >من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة<. كما جعل الله المشي إلى المسجد مصحوباً بالثواب، ففي الحديث >أن الرجل إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا حطت عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه ما لم يحدث، تقول : اللهم ارحمه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاته ما انتظر الصلاة<. رواه البخاري ومسلم. كما أن الله يعد له في الجنة نزلاً ففي الحديث : >من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح< رواه مسلم. كما أن السكينة والرحمة ونزول الملائكة وذكر الله للمؤمنين، كل ذلك مرتبط بالاجتماع في بيوت الله ومدارسة كتابه. فقد روى مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : >وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم سكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده<. رواه مسلم.
كما جعل الإسلام من المسجد بيتاً للأمن وسبباً للجواز على الصراط يوم القيامة. فقد روى البزار في إسناد حسن عن أبي الدرداء قوله : لتكن المساجد مجلسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : >إن الله عز وجل ضمن لمن كانت المساجد بيته الأمنَ والجواز على الصراط يوم القيامة<. وهذا لا يتنافى مع ضرورة عمارة الأرض وحسن الخلافة فيها. ولأهمية المسجد جعله الله تعالى أشرف بقاع الأرض وأضافها إليه. ففي الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال : >أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله تعالى أسواقها، كما قال تعالى : \ وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً \. كذلك جعل الله تعالى ارتياد المساجد أمارة على الإيمان الكامل الذي يستحق الثواب الجزيل، ففي الحديث : >إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان<. وقد وعد الله المرتبطين بالمساجد المعلقة بها قلوبهم يستظلون بظله يوم القيامة. ففي الحديث : >سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله منهم : ... ورجل قلبه معلق بالمساجد<. وفي هذا الإطار نهى الإسلام عن إغلاق المساجد لمنع ذكر الله فيها من صلاة واعتكاف وتعلم. يقول تعالى : \ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم \. وليس المقصود بإغلاقها في غير أوقات الصلاة والعلم خشية العبث بها والإفساد، فهذا مباح.
ولأجل هذه الأهمية أيضاً أمر الإسلام بتنظيف المساجد من الأقذار، ومن كل ما يؤذي المسلمين ورغب في ذلك كثيراً. ففي الحديث : >أن امرأة سوداء كانت تلتقط القـمامة مـن المسـجد ففـقدها النـبي صلى الله عليه و سلم فسأل عنها بـعد أيام، فقـيل له : إنها ماتت فقال : فهلا أذنتموني فأتى قبرها فصلى عليها< رواه البخاري ومسلم. ومن الملامح المهمة للمسجد أنه يربي المسلم على الذوق السليم، ففي الحديث الذي يرويه الإمامان البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه و سلم : >ومن أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزل مسجدنا<. والحديث الذي رواه الشيخان عن أنس يقول النبي صلى الله عليه و سلم : >البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها<، الأمر الذي يتضمن ضرورة العناية بالمساجد حفاظاً على قدسيتها، ومراعاة لشعور الآخرين، ولهذه المنزلة للمسجد كان النبي صلى الله عليه و سلم أول ما يقدم من سفر يبدأ بالمسجد فيصلي فيه ثانياً : أسس الدعوة الإسلامية في المسجد وأساليبها إن أول أسس الدعوة في الإسلام الإيمان بالله، ويعني هذا الأساس عقد الصلة الدائمة بين الداعي إلى الله وخالقه الذي بيده الأمر كله، واستحضار الله عز وجل في كل ما يقوم به الداعي من أفعال، وما يردده من أقوال. والصلة بالله عز وجل هي ملاك الأمر كله، فهي المبدأ والمنتهى في الدعوة الإسلامية. والتربية بالإسلام وبالدعوة إليه، تربية إيمانية شاملة كل الجوانب الشخصية الإنسانية الروحية والبدنية والنفسية والاجتماعية والعقلية. وثاني أسس الدعوة في الإسلام العلم : \ وليعلمَ الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبتَ له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم \. والعلم هنا بمفهومه الشامل الذي يشمل كل ما خلق الله فيشمل العلم بالإنسان وبالكون بما فيه من ظواهر مختلفة، وقد ربط الله عز وجل العلم بالهدف الكبير من التربية الإسلامية وهو عبادة الله وخشيته : \ إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ \. ومعلوم أن الإسلام حث الإنسان على استعمال عقله إلى أقصى ما يستطيع، وشبه الذين عطلوا عقولهم بأنهم : \ كالأنعام بل هم أضل أولئك همُ الغافلون \. الأساس الثالث للدعوة في الإسلام ربط القول بالفعل، قال تعالى : \ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون \. ويهتم الإسلام اهتماماً كبيراً بالتطبيق العلمي للمبادئ، ولذا يرتبط الإيمان في كثير من الآيات القرآنية بالعمل الصالح، قال تعالى : \ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ كانت لهم جناتُ الفردوس نزلاً \. ويهتم الإسلام بتربية الاتجاهات الخيرة في الإنسان ويعتبر العمل الصالح فتحاً جديداً في حياة الإنسان جديراً بأن يبدل الله سيئاته حسنات \ إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسناتٍ وكان الله غفوراً رحيماً \. الأساس الرابع للدعوة تنمية الأخلاق الربانية التي أتى بها الإسلام ودعا إليها الرسل والأنبياء السابقون، وقد بين رسول الله صلى الله عليه و سلم أهمية هذا الأساس في الحديث الصحـيح : >إنما بعـثت لأتمم مكارم الأخلاق<. ومدحه خالقه سبحانه أدق مدح : \ وإنك لعلى خلق عظيم \. وقالت عنه أم المؤمنين عائشة : >كان خلقه القرآن< وقد دعانا الله عز وجل إلى التأسي برسوله صلى الله عليه و سلم : \ لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة لمن كان يرجو الله واليومَ الآخِرَ وذكر الله كثيراً \. أما الأساس الخامس للدعوة الإسلامية فهو الحرص على الفرد والجماعة، والإسلام يعترف باجتماعية الإنسان، وأن الله خلقه ليعيش في جماعة : \ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم \. والله سبحانه هو \ رب العالمين \ و\ رب الناس \ وأنزل القرآن، وأرسل محمداً \ رحمة للعالمين \، لذا كان اهتمام الإسلام بالتربية الاجتماعية، وتنمية روح المبادأة في المسلم حتى لا تضيع المسؤولية والمصلحة الجماعية. ومجتمع المسلمين يزخر بكثير من المؤسسات الاجتماعية في قمتها المساجد التي تربي المسلم تربية روحية وخلقية وعلمية وبدنية، وشعائر العبادة العملية في الإسلام من صلاة وزكاة وصوم وحج، ما هي إلا وسائل عملية يقوم بها المسلم بصفته عضواً في جماعة. ويشمل الاهتمام بالمجتمع في الدعوة الإسلامية، أن يهتم الدعاة ببناء الاتجاهات الإيجابية في المجتمع والعادات الاجتماعية الحسنة التي تسعد الفرد، وتشد من تماسك الأسرة وتكافل المجتمع، ومن هذه الاتجاهات والعادات الاجتماعية، تنمية الأخوة الإيمانية، وحب الإنسانية والوحدة الاجتماعية، وتنمية القيم الأخلاقية الرفيعة كالشورى والمساواة والتعاون والتكافل الاجتماعي والإصلاح بين الناس والعدالة الاجتماعية.
هذه أهم أسس الدعوة الإسلامية التي تكوّن ما يمكن أن نسميه إطار الدعوة الإسلامية وفلسفتها، ومن الضروري بصورة مجملة أن نقف يسيراً عند ثقافة الداعية، وأهم العلوم التي يجب أن يلم بها، ويعتمد عليها في الدعوة، ثم بعض أساليب الدعوة وبخاصة أن هذين الجانبين من أضعف الجوانب في حقل الدعوة الإسلامية في العصر الحاضر. أما عن ثقافة الداعية أو ما يمكن أن نسميه الاهتمام العلمي والثقافي للداعية ذلك الاهتمام الذي يعتمد على مبادأته الفردية باعتبار أن الداعية وصل إلى موقع الدعوة بعد إجازة دراسية رسمية من أحد المعاهد التعليمية بأنه يحمل المؤهلات الرسمية للدعوة إلى الله، ولا تكفي الشهادة الدراسية وحدها في هذا العصر مسوّغاً متوسط المدى أو بعيده للعمل في عصر تتضاعف فيه المعارف والمعلومات كل عشر سنوات، ومن ثم وجب على الداعية أن يكون واسع الأفق، مفتوح العقل والحواس لفهم كل جديد في هذا العصر وبخاصة الجديد الذي يؤثر مباشرة في أفكار الناس وأوضاعهم الثقافية والاجتماعية كالكمبيوتر والإنترنيت وغيرهما من مبتكرات العصر فضلاً عن الفلسفات والاتجاهات السياسية والاجتماعية التي تغزو الناس خفية وصراحة داخل الوسائل الإعلامية المتعددة مثل العلمانية والماسونية والصهيونية والأصولية المسيحية والأصولية اليهودية والبهائية والقاديانية وغيرها من المذاهب والفلسفات التي تعادي الإسلام، ولا تجد لنفسها هدفاً غير محاربته وتشكيك الباحثين عن النجاة في العالم كله في سلامة قصده وسمو رسالته، فعلى الداعية المسارعة إلى فهم ما يفرزه الغرب والصهيونية في بلاد المسلمين من المستحدثات، وما يشيعه من مذاهب ودعاوى تستنفر الصادقين من المسلمين ومن علمائهم، ليجلو مبادئ الإسلام وقيمه السامية بوضوح أمام الباحثين عن الحقيقة والنجاة. ومن البَدَهِي أن عدة الدعوة الإسلامية هي القرآن الكريم والحديث الشريف وأن بعض الدعاة ليس على المستوى المطلوب في فهم القرآن الكريم والاستشهاد بآياته، كما أن بعضهم يعجز عن تبين الأحاديث الصحيحة والأحاديث الموضوعية.
فأما عن القرآن الكريم، فيجب على الداعية الذي يريد أن يعيش مع القرآن، ليستمد منه نوراً لعقله وزاداً لقلبه ورياً لروحه، ثم يمد الآخرين بعد ذلك من فيض ما اكتسبه من القرآن، أن يجمع الآيات القرآنية في الموضوع الواحد، ويصنفها ويقسمها ليبين الأهداف والمعالم التي يعرضها على الناس ويفيدهم منها، وعليه أن يهتم بالقصص القرآني، والقصص وسيلة من أهم وسائل التربية التي تغير الناس وتفجر فيهم طاقات نفسية دفينة أبرزها الإيمان، ولذا يجب على الداعية أن يهتم بالنماذج القرآنية في القصص التي تصور لنا الشخصية الإنسانية في أحوال ومجالات متعددة، كل منها إذا أحسن الداعية عرضه على المسلمين قادهم إلى الاطمئنان والاقتناع، ومن النماذج القرآنية نموذج الفتى الشاكر في شخصية النبي سليمان عليه السلام، فقد قال عندما سمع كلام النملة وفهم عنها \ ربِّ أوزعني أن أشكرَ نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ وأن أعمل صالحاً ترضاه \. كما قـال عـندما أحـضر له عرش بلقيس : \ هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كريم \ (الآية 40 والقصة مفصلة في سورة النمل : الآيات 16-44). ومن النماذج القرآنية نموذج الحاكم أو الملك العادل الذي لم تُـلْهِهِ سَعَةُ ملكه عن عبادة ربه ورعاية شعبه في شخصية ذي القرنين الذي بلغ بفتوحه مطلع الشمس ومغربها، ولكنه ظل متمسكاً بالعدل، يكافئ المحسن، ويعاقب المسيء، ويقوّم المفسدين في الأرض، ويقيم التحصينات والسدود الضخمة مستعيناً بالله أولاً ثم بجهود الشعوب آخراً (الآيات في سورة الكهف 83-98).
وفي القرآن نماذج متعددة للمتعفف عن الحرام برغم قوته وجماله وقوة دواعي الإغراء من حوله، ونموذج الشاب الممتثل لأمر الله الذي يقدم عنقه قرباناً إلى الله، نموذج المؤمن الذي يكتم إيمانه لمنفعة، فإذا جاء وقت الحاجة برز بإيمانه يدافع عن الحق. إلى غير ذلك من النماذج البشرية التي حفل بها القرآن الكريم. ومع القرآن الكريم يجب على الداعية أيضاً أن يحسن الاستدلال بالقرآن وآياته على ما يريد تقريره وتأكيده من أحكام وتعاليم، كما يجب عليه الحذر من سوء التأويل لآيات الكتاب وحملها على معان تخرجها عما أراد الله بها، وهذا نوع من التحريف ذم الله عليه أهل الكتاب. وأسباب التحريف أو الانحراف كثيرة منها إخضاع النصوص للواقع الزمني، ثم تبين مذهب أو اتجاه اجتماعي أو سياسي واتخاذ النصوص بعد ذلك دليلاً له، وتجزئة النصوص وتفكيكها وعدم ربط بعضها ببعض، واتباع المتشابهات وترك المحكمات وهذا دأب الزائفين والمنحرفين عن نهج القرآن من قبل ومن بعد. أما عن تفسير القرآن الكريم فمن أفضل ما ورد في ذلك عن كبار الفقهاء والدعاة أن يهتم الداعية بلب التفسير وأن يعرض عن الحشو والفضول والاستطراد الذي حفلت به بعض كتب التفسير، وأن يعرض عن الإسرائيليات التي دست في كتب التفسير، وكأن اليهودية بعد هزيمتها العسكرية من الإسلام أرادت أن تقاوم الإسلام بسلاح يعوضها عن هزيمتها العسكرية، فكان هذا الغزو الثقافي عن طريق إسرائيلياتها المنكرة في غفلة من الزمن، وقد غصت بها بعض كتب المسلمين. وعلى الداعية أن يحذر من الروايات الموضوعة والضعيفة وقد حشى بها كثير من كتب التفسير، سواء فيها ما كان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه و سلم ، وما كان مرفوعاً إلى بعض الصحابة مثل علي وابن عباس وغيرهما، وما كان منسوباً إلى بعض التابعين مثل مجاهد والحسن وعكرمة، وابن جبير وغيرهم، وما كان منسوباً إلى من بعدهم من تابعي التابعين، كما يجب على الداعية الحذر من الأقوال الضعيفة والآراء الفاسدة، وهي أقوال صحيحة النسبة إلى قائليها من جهة الرواية، ولكنها سقيمة أو مردودة من جهة الدراية، وهذا ليس بمستغرب ما دامت صادرة من غير معصوم. أما السنة النبوية، وهي المصدر الثاني للشريعة الإسلامية، وهي الشارحة للقرآن والمبينة له والمفصلة لما أجمل، فهي التفسير النظري والتطبيقي العملي لكتاب الـله. قال الـله تـعالى يـخاطب رسـوله : \ وأنزلـنا إليـك الذكر لتـبين للـناس ما نزل إليهم \.
وتشمل السنة أقوال النبي صلى الله عليه و سلم وأفعاله وتقريراته وأوصافه وسيرته، فهي السجل الحافل لحياته وجهاده عليه الصلاة والسلام في سبيل دعوته، ولا يستغني داعية يريد أن يدرس ويفهم الإسلام ويحاضر أو يخطب، عن الرجوع إليها والاعتماد عليها، وأول ما يجب على الداعية نحو السنة أن يهتم بسيرة الرسول صلى الله عليه و سلم ، وسيرة الرسول هي الإسلام مجسماً في حياة بشر والقرآن حياً يسعى على قدمين، ولما سئلت أم المؤمنين عائشة عن خلقه عليه الصلاة والسلام قالت : >كان خلقه القرآن< أي أنه، عليه الصلاة والسلام، كان النموذج الحي للفضائل والأخلاق التي دعا إليها القرآن. وعلى الداعية أن يجمع الأحاديث في الموضوع الواحد ويصنفها ويقسمها على أجزاء الموضوع وعناصره، وأن يحذر من وضع الأحاديث في غير موضعها، وعليه أن يقاوم حملة التشكيك في الأحاديث الصحاح، وعلى الداعية أن يتجنب عرض الأحاديث المشكلة على جمهرة الناس لغير ضرورة تقتضيها، وعلى الداعية أيضاً أن يحذر من رواية الأحاديث الموضوعة والواهية، إلا مع التنبيه عليه وبيان أن الحديث موضوع ليحذر منه سامعه أو قارئه، قال النووي : >تحرم روايته مع العلم به في أي معنى كان سواء الأحكام والقصص والترغيب وغيرها إلا مقروناً ببيان وضعه<. وأسباب تسرب الأحاديث الموضوعة إلى الدعاة معروفة وعليهم علاج ذلك. ومن الضروري للداعية أن يعرف أهم الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات والآداب، وأن يرجع في ذلك إلى كتب الفقه، وعليه أن يحرص على ربط الأحكام بأدلتها من الكتاب والسنة، وهناك أدلة أخرى كالقياس والإجماع والاستصحاب والاستحسان وغيرها من أدلة ما لا نص فيه، وإذا كان الداعية ملتزماً بمذهب من المذاهب، فمن الضروري أن يتعرف أدلة مذهبه لكي يطمئن قلبه، ولا مانع من التعرف على أدلة المذاهب الأخرى في بعض المسائل التي يرى ضعف مذهبه فيها، لذا يحسن بالداعية أن يتعرف على المذاهب الأخرى وبخاصة التي يتبعها بعض من يدعوهم في المسجد أو الإقليم الذي يدعو الناس فيه. وعلى الداعية أن يحذر المبالغة في تعليل العبادات بأمور دنيوية، لأن العبادات مرادة لذاتها، فالغاية من خلق الإنسان هي العبادة كما قال تعالى : \ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون \.
أما عن السبل والأساليب التي يعتمد عليها الداعية فمنها التربية بالحوار القرآني والنبوي ومن أهم أشكاله الحوار الخطابي أ والتعبيري، والحوار الخطابي منه ما هو موجه للذين آمنوا، ومنه الحوار الخطابي التذكيري والحوار الخطابي التشبيهي، ومنه الحوار الخطابي العاطفي، وللحوار دور كبير في تربية العواطف المؤمنة، ومن أهم أساليب الدعاة الحوار القصصي، وهو لا يأتي في صورة القصة أو المسرحية التي نعرفها اليوم، وإنما يأتي الحوار كجزء من أسلوب القصة أو عناصرها في القرآن، وقد يغلب الحوار على الأخبار في القصة، كما في قصة شعيب مع قومه في سورة هود، فالآيات العشر الأولى من هذه القصة كلها حوار، ثم يختم الله القصة بآيتين يبين فيهما عاقبة قوم شعيب (سورة هود، الآيات 84-95).
وإلى جانب الحوار في القرآن الكريم هناك حوار في السنة الشريفة منه حوار عاطفي كما حدث بين الرسول صلى الله عليه و سلم حين أعطى من غنائم قوم هوازن وسباياها قريش ولم يعط الأنصار، فعتب الأنصار لذلك على رسول الله صلى الله عليه و سلم وكثرت منهم القالة، فأمر سعد بن عبادة فجمعهم، فأتاهم الرسول صلى الله عليه و سلم فحمد الله ثم قال : يا معشر الأنصار ... إلخ فبكى القوم حتى أخْضَـلوا لحاهم. وهناك الحوار النبوي الإقناعي كما حدث مع الرجل الذي أراد أن يدخل في الإسلام على أن يباح له الزنا، وما زال الرسول بالرجل حتى اقتنع بحرمة الزنا ودخل في الإسلام. ومن وسائل الدعوة القصص، ومن أهداف القصص القرآني بيان قدرة الله تعالى بياناً يثير انفعالات الدهشة والخوف من الله تعالى لتربية عاطفة الانقياد والخشوع لله تعالى. ومن أمثلة القصص قصة الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، وقصة خلق آدم، وقصة إبراهيم والطير الذي آب إليه بعد أن جعل على كل جبل جزءاً منه (سورة البقرة، الآية 260).
وإلى جانب القصص القرآني يوجد القصص النبوي، ويكشف القصص النبوي عن أهمية إخلاص العمل الصالح والتوسل به إلى الله تعالى للخروج من ضائقة وتفريج أزمة، وهذا واضح في قصة الثلاثة في الغار الذين انحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار إلى آخر القصة. ومن الوسائل التربوية للداعية ضرب الأمثال والقدوة والتربية بالعظة والعبرة، ويحفل القرآن الكريم بالأمثلة الواضحة لهذه الوسائل التربوية. ومن الواضح أن الداعية لا يلتزم وسيلة واحدة في كل المواقف، وإنما تتغير الوسيلة بتغير الموضوع أو الموقف، وقد يستخدم أكثر من وسيلة في خطبة الجمعة مثلاً. وفي دعوة الأميين يلجأ الدعاة غالباً إلى القصص والأخبار العاطفية المثيرة التي تثير الشجن وتحرك كوامن النفس، ويبدو المتلقي غارقاً في مشاعر دافئة يسيطر عليها الإعجاب الشديد بالداعية والاقتناع بما يقول بل والتعصب الشديد له. أما عندما يخاطب الداعية المثقفين فإن طريقه إلى إقناعهم بما يعرضه عليهم يفرض عليه الاعتماد على الأدلة والبراهين والتحليلات السليمة لما يعرضه عليهم.
ثالثاً : الأدوار التربوية والاجتماعية للمسجد لما كانت التربية الإسلامية تعنى ببناء الشخصية المسلمة في إطار المجتمع المسلم بناءً متكاملاً، فإن المسجد يسهم في تحقيق هذا الهدف من خلال مناشطه المختلفة التربوية والاجتماعية. ويرجع ذلك إلى أن الإسلام دين اجتماعي يسعى إلى إيجاد المجتمع الصالح وتكوين الفرد الصالح، بل إن صلاح المجتمع لازم لصلاح الفرد لزوم التربة الخصبة لإنبات البذرة. فلا يتصور الإسلام الفرد المسلم إنساناً منعزلاً في خلوة أو راهباً في صومعة، بل يتصوره دائماً في جماعة حتى في عبادته لربه. ومن هنا هدفت المساجد في الإسلام إلى تحقيق هذه الصورة الاجتماعية القوية وإقامة المجتمع المتماسك الذي تربطه في المقام الأول روابط العقيدة. لذا كان المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم مكاناً للعبادة والاعتكاف والتعليم والتوجيه، ومكاناً لتشاور المسلمين وتناصحهم فيما بينهم. وكان فيه التقاضي، وكان مقراً للقيادة وعقد ألوية الجيوش المجاهدة في سبيل الله، وتطبيب المرضى. فضلاً عن أنه كان مركزاً للتثقيف. كما كانت توثق به عقود الزواج، كذلك كان مكاناً لاستقبال الوفود والسفراء، إضافة إلى أنه كان يمثل داراً للإعلام، كما كان داراً للإغاثة والرعاية الاجتماعية. وسوف نعرض فيما يلي هذه الأدوار بشيء من التفصيل :
أ) الرسالة الروحية للمسجد : من خلال المسجد يقوم الكيان الروحي للأمة، كما أنه الأساس لوجودها المادي. قال تعالى : \ لا تقم فيه أبداً لمسجدٌ أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب الـمطَّهِّرين \(1). فالمسجد يهذب نفس المسلم ويرقى بمشاعره ويبعث لديه السكينة والطمأنينة، كما أنه يصل المسلم بربه ويطهر نفسه من الأنانية وحب الذات، وذلك قول الله سبحانه وتعالى : \ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبرُ \(2)، والصلاة وقراءة القرآن تمنحان صاحبهما فيوضات ربانية ورحمات إلهية لا تنقطع، وتُباعد بين الإنسان والفواحش والمنكرات. قال تعالى : \ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر \. والمسجد يربط المسلم بربه ويتم فيه ذكر الله وطاعته. يقول تعالى : \ في بُيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيـع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتـقلب فيه القـلوب والأبصار \( 3)، حيث تؤدى في المسجد الصلوات الخمس في جماعة، وكذلك صلاة الجمعة والجنازة وغيرها. وفي المسجد يكون الاعتكاف، ومعناه عكوف القلب على الله تعالى طاعةً له. وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، وكان يأمر بخباء فيضرب له في المسجد يخلو فيه بربه عز وجل. فالاعتكاف إحدى الوظائف الدينية للمسجد. وفي المسجد يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك من خلال خطبة الجمعة والدروس والعظات التي تلقى فيه، وهذه الرسالة للمسجد لم تحرم المرأة من الصلاة، كما جاء في الحديث : >لا تمنعوا إماء الله مساجد الله<. ب) الرسالة التعليمية للمسجد : إن الحديث عن الدور العظيم للمسجد في التربية والتعليم ونشر العلم والمعرفة بين المسلمين ماضياً وحاضراً، لا يعد انتقاصاً من دور الجامعات ومعاهد التعليم. كما لا يعد دعوة إلى قصر التعليم على التعليم المسجدي الذي كان سائداً في بعض المساجد، وإنما الهدف هو الكشف عن الدور الحقيقي للمسجد في الإسلام في ميدان التربية، فضلاً عن تفعيل هذا الدور وإمكانية الإفادة منه في وقتنا المعاصر. كما تجدر الإشارة إلى أن المسجد روح قبل كل شيء، ومتى وجدت هذه الروح في الجامعات والمعاهد والمداس وفي العالم الإسلامي، كانت قادرة على أداء دورها في إحداث النهضة وبث اليقظة ومحاربة الانحراف الديني والخلقي والسياسي والتربوي وغيرها من الانحرافات في أوساط المسلمين. وعندما يصبح معلمو المدارس ومديروها المشرفون عليها على درجة عليا من الخلق والاستقامة والكفاءة، فإنهم سوف يؤدّون رسالة المسجد على أفضل وجه مهما كان نوع العلوم التي تدرس بالمساجد سواء كانت علوم الدين أو الدنيا(1). فالعلم هو أساس العملية التربوية في الإسلام. ولقد ورد أن السيدة عائشة، رضي الله عنها، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : >إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً<(2). وطلب العلم في الإسلام فريضة على كل مسلم ومسلمة، فهو مأمور بأن يتعلم الحلال والحرام، ليكون على نور من أمر دينه، وأول ما ينبغي عليه أن يتعلمه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم ليكون على بصيرة. يقول تعالى : \ قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين \(1). وقد حث النبي عليه السلام على تعلّم القرآن وتعليمه فقال : > خيركم من تعلم القرآن وعلمه<(2). وقد أدرك الصحابة، رضوان الله عليهم، قيمة هذا الأمر، فكانوا يجتمعون في المسجد، حول النبي صلى الله عليه و سلم لأخذ العلم من منابعه. وقد حثهم النبي صلى الله عليه و سلم على تدارس كتاب الله في المسجد فقال : >ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده<(3).
فكان المسجد معهداً لتعلم القرآن وتعليمه وفهم آياته وأحكامه، كما كان معهداً لدراسة الأحاديث النبوية والتفقه فيها. وقد ظل المسجد إلى عهد قريب هو المدرسة لكل العلوم يجلس به العلماء والفقهاء والمحدثون ويتحلق من حولهم الطلاب ينهلون من علمهم وفقههم(4). ولقد ورد ما يدل على أن التعليم والتعلّم في المسجد أفضل من سائر الأمكنة، فقد روى الإمام أحمد وابن ماجة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : >من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيراً أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله، ومن دخل لغير ذلك كان كالناظر لما ليس له<(5). ولما تأسست الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، كان المسجد النبوي من أهم دعاماتها، وكان هو المؤسسة التعليمية الرسمية الأولى في هذا المجتمع الجديد. وإن معظم المسلمين كانوا يتعلمون في هذا المسجد تعاليم الدين، وما أوجبته الظروف المرتبطة بنشأة هذا المجتمع. فآيات القرآن الكريم وفرائض الدين والقوانين المنظمة لهذا المجتمع، وسبل حمايته عسكرياً وسياسياً وتنظيم علاقته بالمجتمعات المحيطة به (حرباً أو مهادنة)، كل ذلك يمثل المحتوى التعليمي لهذه المؤسسة. ولهذه الأهمية التي يحظى بها التعليم في الإسلام، رغب النبي صلى الله عليه و سلم في ارتياد المسجد للتعلم. ففي الحديث الذي رواه مسلم : >أفلا يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد، فيتعلم أو يقرأ آية من كتاب الله عز وجل، خير من ناقتين وثلاث وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع ومن أعدادهم من الإبل<. ومن أبرز ما يؤكد على أن المسجد كان مركزاً للتعليم والتوجيه، مجالس العلم التي كانت تعقد في مسجد الرسول، عليه السلام، ويتزاحم المسلمون عليها، ويتنافسون في القرب منه. فعن الحرث بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل إثنان إلى رسول الله وذهب واحد، فوقفا على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً. فلما فرغ رسول الله قال : >ألا أخبركم عن النفر الثلاثة ؟ أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيى من الله فاستحيى الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه<(1). ولقد سلك صحابة النبي، عليه السلام، هذا النهج فكانوا يتدارسون القرآن في مسجده، ويتذاكرون فيه الحلال والحرام، ليتفقهوا في الدين. روى الطبراني بإسناد حسن عن أبي هريرة : >أنه مر بسوق المدينة فوقف عليها، فقال : >يا أهل السوق ما أعجزكم !! قالوا : وما ذاك يا أبا هريرة ؟ قال ذاك ميراث النبي، عليه السلام، يقسم وأنتم ها هنا تذهبون فتأخذوا نصيبكم منه. قالوا : وأين هو ؟ قال : فـي المسجد فخرجوا سراعاً. ووقـف أبو هريرة لم يبرح مكانه حتى رجعوا فقال لهم : ما بكم ؟ فقالوا : يا أبا هريرة قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نر شيئاً يقسم. فقال لهم أبو هريرة : وما رأيتم في المسجد أحداً ؟ قالوا : بلى، رأينا قوماً يصلون وقوماً يقرأون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة : ويحكم فذاك ميراث محمد صلى الله عليه و سلم <.
ج) المسجد وتعليم المرأة : لقد خرجت المرأة إلى المسجد لتأخذ بحظها من العلم. روى البخاري أن النساء قلن للنبي صلى الله عليه و سلم : >غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك<، فعين لهن يوماً يلقاهن فيه ويعلمهن، ولقد أمر النبي بأن يكون للنساء باب يدخلن ويخرجن منه، فقال : اجعلوا هذا الباب للنساء< فسمي باب النساء. وتجدر الإشارة إلى أنه لما انتشر الإسلام واتسعت الأمصار، تفرق هؤلاء المعلمون من الصحابة والتابعين ـ الذين تلقوا علمهم بالمسجد ـ في شتى الأنحاء والأمصار، وقاموا بحركة تعليمية مباركة. ولم يكن التعليم في هذا الوقت مهنة أو صناعة وإنما تعلم الصحابة والتابعون لغرض ديني هو القربى إلى الله وابتغاء مرضاته ونشر دعوته.
د) المسجد والمكتبة : لما كان المسجد مدرسة للمسلم، وكان كثير من المسلمين لا تتوفر لديهم مصادر العلم لاسيما الفقراء والذين لا يجدون سَعَةً لشراء الكتب التي توسع آفاق معرفتهم، فإنه من الضروري أن تكون في كل مسجد مكتبة تمثل مركز إشعاع وتوجيه وتربية. وهذه المكتبة ينبغي أن تكون متنوعة تزود يومياً بالجديد من الكتب والبحوث والمجلات الهادفة ليكون المتردد على تلك المكتبة على صلة بكل جديد في الفكر وما يجري في العالم من تيارات فكرية. لذا فإنه يجب إعداد نشرة ثقافية توجيهية تهذيبية بما يجري في المِنْطَقَة المحيطة بالمسجد والمشكلات التي تطرأ عليها، على أن يشترك فيها المتخصصون في مجالات مختلفة مع الإمام. وهذه النشرة تعلق بداخل المسجد. كما يُغْني مكتبةَ المسجد وجودُ مكتبة سمعية بصرية، فالكلمة المقروءة والمسموعة حين تنطلق من داخل المسجد يكون لها تأثير في النفوس وتوجيه لكل عمل بناء في حياة البشر. ولعل تزويد المساجد بالمكتبات يمثل زاداً ثقافياً للمسلمين يقيهم شرور الفكر المسموم الذي يعرض عبر الكلمات المكتوبة تارة والمسموعة أخرى. إن المسجد إذا أسهم في تكوين عقول المسلمين وتنمية ثقافتهم، فإن المجتمع بأسره يتجه نحو التنمية الشاملة من خلال شعاع المسجد وتأثيره الذي يتغلغل داخل النفوس المؤمنة.
هـ) المسجد دار إغاثة ورعاية اجتماعية وصحية : لقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يقسم الأموال الواردة إليه في المسجد على ذوي الحاجات، فإن لم تكن هناك أموال ـ وكان الناس في حاجة ـ دعا الأغنياء إلى البذل والإنفاق، وقام بتوزيعها على الفقراء والمحتاجين في المسجد أيضاً. فقد حدث أن وفد على رسول الله قوم يشكون الفاقة والحاجة للثياب، فتغير وجه رسول الله حزناً عليهم ثم صلى الله عليه و سلم خطب في الناس حاثاً لهم على رعاية الرحم وتقديم الخير، فانهالت التبرعات من الدراهم والدنانير والثياب والبر والتمر حتى تكوم كومان عظيمان من الطعام والثياب، فتهلل وجه النبي عليه السلام وأعطى القوم صروراً. هذا إضافة إلى توزيع الأموال الواردة إليه في المسجد صلى الله عليه و سلم ، فقد ورد عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : >أُتي النبي صلى الله عليه و سلم بمال من البحرين فقال : انثروه في المسجد، وكان أكثر مال أُتي به النبي، عليه السلام، فخرج رسول الله إلى الصلاة، ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه فما كان يرى أحداً إلا أعطاه...< الحديث(1).
و) المسجد دار للغريب : خصص النبي صلى الله عليه و سلم في مسجده مكاناً لإيواء الفقراء الذين ليس لهم بيوت، وعرف هذا بمكان أهل الصُّفَّةِ. وكان عددهم سبعين فرداً على رأسهم أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ وكان النبي ينفق عليهم من مال الصدقة وتبرعات أهل الفضل. ففي الحديث عن عثمان بن اليمان قال : لما كثر المهاجرون بالمدينة، ولم يكن لهم دار ولا مأوى، أنزلهم رسول الله المسجد، وسماهم أهل الصُّفَّةِ، وكان يجالسهم ويأنس بهم(2)، كما كان بالمسجد مسكن خاص لامرأة كانت تخدم حياً من العرب، ثم اتهموها بالسرقة فبرأها الله، وأسلمت فاتخذت خباء بالمسجد تسكن فيه وتتردد على أم المؤمنين عائشة في بيتها. فلقد عرف أهل الخير أن الغريب لابد أن يكون له مكان يأوي إليه فبنوا المضيفة، والرباط بجوار المسجد، ووقفوا عليها ما يضمن لها الاستمرار في أداء هذا الواجب.
ز) المسجد دار علاج وتطبيب : لقد اتخذ النبي صلى الله عليه و سلم من المسجد مكاناً لعلاج المرضى، ففي غزوة الخندق لما أصيب سعد بن معاذ ضرب النبي ـ عليه السلام ـ له خيمة في المسجد يعالج فيها، وقام بتمريضه أهل الخبرة في هذا المجال، وهي رفيدة الأسلمية. وفي الحديث عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قال : >أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق، رماه رجل من قريش يقال له حبان بن العرقة، في الأكحل ـ عرق في اليد ـ فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب<(1). ويدل هذا الأمر على أن المسجد لا يشكل عبئاً على المجتمع، وإنما يتفاعل معه بما يخدمه ويرقى به. ولما كان المريض في أشد الحاجة إلى ما يطمئن فؤاده، ويغرس فيه ضرورة الرضا بالقدر، والصبر على البلاء ويحقق صلته بالله مما يخفف عنه الألم ويذهب السقم. كل ذلك يؤكد على ضرورة أن يوجد مسجد بكل مستشفى يعين المرضى على أداء فريضة الصلاة، ويدعم الجانب الروحي فيهم(2)، فلقد ورد في الحديث الشريف : >ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه<(3). ويتبين من هذا الأمر أيضاً مشاركة المرأة لجوانب العمل الاجتماعي دون خدش لحيائها أو تفريط في دينها. قال ابن إسحاق : >وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأةٍ من أسلم، يقال لها رفيدة، في مسجده كانت تداوي الجرحى، وتحتسب نفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قال لقومه حين أصابه السهم في الخندق : >اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب<(4). فالمرأة رائدة اجتماعية في ظل الإسلام شاركت في التعليم والتطبيب والحرب، ولم نسمع بأن النساء الفضليات في كثير من المجالات قدمن السفور أو التحلل ثمناً لمنصب أو لمظهر اجتماعي، كما نرى البعض اليوم تحت شعار حرية المرأة، أقول إن المرأة ما وجدت حريتها ولا كرامتها إلا في الإسلام.
ح) المسجد مكان لعقد الزواج : سنَّ الرسول صلى الله عليه و سلم أن يعلن النكاح في المسجد، ويتم فيه عقده المبارك في ظل الجو الإسلامي المتسم بصفاء الروح بين جدران المسجد، حيث يشهد المسلمون الفرحة. فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : >اعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف<(1) رواه الترمذي. ولعل هذا يعود إلى أن النسب الذي يربط بين الأسر بعلاقات المودة والرحمة هو أول ما يحتاج إلى عقدٍ تامٍّ صحيح، ولاشك أن أطهر مكان يتم فيه هذا العقد هو المسجد، حيث يغشاه كثير من المسلمين، فيكون ذلك أدعى للمحافظة على هذا الزواج.
ط) المسجد دار القضاء : اتخذ المسجد داراً للقضاء العادل بين المتنازعين، حيث يأمن فيه كل إنسان على نفسه ويطمئن إلى أخذ حقه. قال الله تعالى : \ وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب. إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تُشْطِطْ واهدنا إلى سواء الصراط \(2). قال الإمام القرطبي : >ليس ما في القرآن ما يدل على القضاء في المسجد أهمّ من هذه الآية، وبها استدل من قال بجواز القضاء في المسجد<. وفي صحيح البخاري أن كعب بن مالك تقاضى ابن أبي حدور ديناً كان له في المسجد فارتفع صوتهما، حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في بيته فخرج إليهـما حـتى كـشف عـن سجـف حـجرته، فنادى : يا كعب، قال : لبيك يا رسول الله، قال : ضع من دينك هذا وأومأ إليه أي الشطر. قال : لقد فعلت يا رسول الله، قال : قم فاقضه. وعن إسماعيل بن أبي خالد قال : >رأيت شريحاً يقضي في المسجد< (البخاري). وقد قال مالك : القضاء في المسجد من الأمر القديم. يعني في أكثر الأمور.
ي) الرسالة العسكرية للمسجد : حين هاجر النبي صلى الله عليه و سلم شرع في بناء المسجد، وعمل مع أصحابه في تشييده، فكان هذا المسجد هو الثكنة العسكرية الأولى في الإسلام. فكان النبي يحشد أصحابه في المسجد ويحرضهم على الثبات في القتال. وتنطلق الغزوات والسرايات من المسجد، ويجتمع الصحابة في المسجد حين يداهمهم خطر. كما أن المنتصرين في الغزوات والسرايا يعودون إلى المسجد، وتضمد جروح المصابين في المسجد(1). وكان المسجد أحياناً ساحة للتدريب العسكري، فقد روت عائشة أم المؤمنين أن الأحباش كانوا يتدربون في ساحات المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يساعد عائشة على أن تراهم من حيث لا تواجههم. كما أن المسجد ربَّى القادة الذين حفظ لهم التاريخ أمجادهم مثل قاضي القضاة "أسد بن الفرات" فاتح صقلية، و"صلاح الدين الأيوبي" الذي استعاد القدس من الصليبيين، و"قطز" قاهر التتار، و"محمد الفاتح" فاتح القسطنطينية. فكل القادة الذين نجحوا في صد المعتدين أو أضافوا فتحاً جديداً على الفتوحات الإسلامية، كانوا ملتزمين بتعاليم الإسلام، وكانوا قدوة لجنودهم في التدين والاستقامة والعمل الصالح. ولعل في صلاة الجماعة تدريباً عملياً على الضبط والنظام، فلها أهمية بالغة في إيقاظ روح النظام في نفوس المسلمين، فلقد كان المسجد في نشأته المسجد أول ميدان حقيقي للتدريب العسكري عند المسلمين، فما أحرانا أن نعود إلى المسجد لنجعل منه مكاناً لرفع المعنويات والسمو الروحي، لا بجعله ميداناً للتدريب، فإن لهذا مجاله المعروف في هذا العصر، وإنما لإحياء الرسالة الاجتماعية في إطار الضوابط واحترام ما يَتَوَاضَعُ عليه المجتمع.
ك) المسجد مكان لاستقبال الوفود والسفراء : عرف المسجد أنه من أنسب الأماكن لاستقبال الوافدين من أبناء الإسلام وأهل الكتاب من أي مكان وفي أي وقت. ولقد استقبل النبي صلى الله عليه و سلم العديد من الوفود في المسجد ومن بينها وفد عبد قيس، وكان من خبرهم أن الرسول صلى الله عليه و سلم كان جالساً بين أصحابه يوماً، فقال لهم : >سيطلع عليكم من هنا ركب هم خير أهل المشرق لم يكرهوا على الإسلام، قد أنضوا الركائب، وأفنوا الزاد، اللهم اغفر لعبد قيس< وتمت مقابلتهم بالنبي صلى الله عليه و سلم . ومن الوفود التي قابلها النبي، عليه السلام، وفد سعد بن هذيم. قال النعمان عنهم : قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم وافداً في نفر من قومي، وقد أوطأ رسول الله البلاد وأزاح العرب، والناس صنفان إما داخل في الإسلام راغب فيه، وإما خائف السيف، فنزلنا ناحية من المدينة، ثم خرجنا نؤم المسجد حتى انتهينا إلى بابه، فوجدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي على جنازة في المسجد، فقمنا خلفه ناصية، ولم ندخل مع الناس في صلاتهم، وقلنا : حتى يصلي رسول الله ونبايعه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم فنظر إليـنا فدعا بـنا، فـقال : فمن أنتم ؟ فقـلنا : من بني سعد بن هذيم، فقال : أمسلمون أنتم ؟ فقلنا : نعم، فقال : هلا صليتم على أخيكم ؟ قلنا : يا رسول الله ظننا أن ذلك لا يجوز حتى نبايعك، فقال عليه السلام : أينما أسلمتم فأنتم مسلمون. فأسلمنا وبايعنا رسول الله بأيدينا. وكان عليه السلام يقابل هذه الوفود في المسجد بما جبله الله عليه من البشاشة وكرم الأخلاق، ويجيزهم بما يرضيهم ويعلمهم الإيمان والشرائع ليعلموا من وراءهم. وكانت هذه الوفود أعظم صلة لإظهار الدين بين الأعراب في البوادي(1).
ل) الدور الإعلامي للمسجد : كان المسجد يقوم بدور الإعلام، حيث كان السلاطين والملوك والأمراء كلما أصدروا مرسوماً من المراسيم الاقتصادية أو الاجتماعية نقشوه على حجر من الرخام ووضع بصدر المسجد من الداخل أو الخارج حيث يراه كل الداخلين إليه. وقد اختير المسجد مكاناً للإعلام والإعلان حيث إنه مكان اجتماع الناس للصلاة الجامعة والجماعة. وهذه المراسيم كانت تعالج بعض أوجه القصور الموجودة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وغيرها. ومن المراسيم الاجتماعية مرسوم صدر عن السلطان "برقوق بن أنس العثماني" أول سلاطين المماليك الشراكسة بمصر، عثر عليه المرحوم "حسن عبد الوهاب" وهو مثبت أمام باب المدرسة الأقبغاوية على يسار الداخل إلى الأزهر من باب المزينين. ونص هذا المرسوم : >بسم الله الرحمن الرحيم، رسم بالأمر الشريف السلطاني الملكي، الظاهر أبو سعيد برقوق أعز نصره، أن موجود من يتوفى إلى الله تعالى من الفقراء المجاورين بالجامع الأزهر وأرباب وظائفه، ولم يكن له وارث شرعي، يكون لصالح الجامع الأزهر بمقتضى العلامة الشريفة بتاريخ سابع شهر ربيع الأول سنة 792<(1).
م) المسجد دار للشورى : عندما لحق رسول الله بالرفيق الأعلى اجتمع المهاجرون والأنصار في المسجد وتجادلوا فيمن يكون خليفة، هل يكون من المهاجرين أم من الأنصار ؟، وانتهى الحوار والجدال بمبايعة الصديق أبي بكر خليفة لرسول الله صلى الله عليه و سلم . وقد شاور أبو بكر الصحابة في أن يكون عمر خليفة من بعده، وقد وافقوا على ما اختاره أبو بكر، وتمت بيعة عمر في المسجد. وعندما طعن عمر أوصى أن يكون الخليفة واحداً من الصحابة الستة الذين بشرهم الرسول صلى الله عليه و سلم بالجنة، وجعل ابنه عبد الله معهم مرجحاً لفريق على آخر إذا تساوى الفريقان، على أن لا يكون الخليفة، وأخيراً بايع الصحابة عثمان رضي الله عنه بالخلافة، وكان ذلك في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ولما قتل سيدنا عثمان اجتمع الأنصار والمهاجرون في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم لينظروا من يولونه أمرهم حتى غص المسجد بأهله، فاتفق رأي عمار وجمع كبير من الناس على إقعاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في الخلافة. وأعلن الأمر بين المهاجرين والأنصار، ورضي الجميع إلا نفراً قليلاً، فأتوا علياً ـ رضي الله عنه ـ فاستخرجوه من داره، وسألوه بسط يده فقبضها فتداكوا عليه تداك الإبل إليهم على ولدها، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً، فلما رأى منهم ما رأى، سألهم أن تكون بيعته في المسجد ظاهرة للناس، وقال : إن كرهني رجل واحد من الناس لم أدخل في هذا الأمر، فنهض الناس معه حتى دخل المسجد، فكان أول من بايعه طلحة، ثم بايعه رجال الزبير، وهكذا تمت البيعة في المسجد(2).
ل) المسجد ونظافة البيئة : لما كان الإسلام يهتم بالبيئة ونظافتها، ووعد بالأجر والثواب لمن عني بها، كانت المساجد أولى البقع بهذه النظافة، الأمر الذي ينعكس على سلوكيات الأفراد خارج المسجد. ففي الحديث الذي رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : >عرضت عليَّ أعمال أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد<(1). كما كرم النبي صلى الله عليه و سلم امرأة تكريماً عظيماً لأنها كانت تخدم المسجد وتقوم على نظافته، وإخراج التراب منه. ففي الحديث الذي رواه أبو الشيخ الأصبهاني عن عبيد الله بن مرزوق قال : >كانت امرأة بالمدينة تقم المسجد (أي تكنسه) فماتت، فلم يعلم بها النبي عليه السلام، فمر علـى قبـرها فقال : ما هـذا القبر ؟ فقالوا : قـبر أم محـجن. قال : التـي كانت تقـم المسجد ؟ قالوا : نعم. فصف الناس فصلى عليها، ثم قال : أي العمل وجدتِ أفضل ؟ قالوا : يا رسول الله : أتسمع ؟؟ قال : ما أنتم بأسمع منها. فذكر أنها أجابته : قمَّ المسجد(2). فلقد نالت المرأة هذا التكريم من صلاة النبي عليها وصف الناس قبرها والدعاء لها بالخير والرحمة، وذلك بفضل خدمة المسجد وتنظيفه. وفي هذا الإطار يقول الله سبحانه وتعالى مؤكداً على النظافة والتجمّل من أجل بيئة نظيفة خالية من التلوث يسعد فيها الفرد والمجتمع على السواء : \ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين \(3). وهكذا ينبغي أن تبقى بيوت الله نظيفة، تفوح منها الروائح الزكية التي تساعد على ارتيادها للصلاة فيها، وللاعتكاف فيها وأداء شعائر الله وفرائضه. فالمسجد يربي المسلم على النظافة والنظام وغيرها من القيم البيئية التي نحتاج إليها في حياتنا.
س) المسجد بإدارته : تعتمد فاعلية المسجد في المجتمع على فاعلية إمامه، فالمسجد ليس بقوة المبنى ولا بسعة المكان. فقد يكون المسجد صغيراً جداً ورواده بالآلاف وخدماته ملموسة لأفراد المجتمع، يوجد فيه الإمام داعية مخلصاً واسع المدارك فاهماً لدينه، متفهماً لقضايا مجتمعه، يلتحم بالجمهور، يشاركهم الرأي والفرح والمصيبة، يقوم بدوره طبيباً لمعالجة مرضى القلوب واضطراب النفوس، يعمل بما أوتي من حكمة على إيجاد الأمن والإيمان في المجتمع، كما أنه مصلح اجتماعي يقود الجماهير إلى العلم الاجتماعي بجوانبه المختلفة. والإمام هو الصورة المشرقة بالأمل، النابضة بالحركة، الأسوة في كل عمل صالح، ورسالته مستقاة من رسالة الأنبياء والمرسلين ومهمته خطيرة. وإذا كان المسجد يقدم للمجتمع العناصر الطيبة، فإن الذي يدير عجلة هذا المصنع ويقودها إنما هو الإمام. رابعاً : نماذج لمساجد حفل بها المجال التربوي والاجتماعي لقد كان المسجد منذ أنشئ جامعاً للعبادة وجامعاً للعلم، وما نشأت الدراسات الفقهية إلا في صحون المساجد، وكان روادها يخرجون منها بزاد متكامل من المعارف والآداب، بل كانت هذه البيوت مفزعاً لمن يريد الإقبال على الله يلتمس في جوها الخاشع السكينة والرضا(1). وقد أجمل ابن تيمية وظائف المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله : >وكانت مواضع الأئمة ومجامع الملة هي المساجد، فإن النبي صلى الله عليه و سلم أسس مسجده المبارك على التقوى، ففيه الصلاة، والقراءة والذكر والتعليم، والخطب، وفيه عقد الألوية وتأمير الأمراء وتعريف العرفاء، وفيه يجتمع المسلمون لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم<(2).
ولعل الوقوف على نماذج لبعض المساجد التي أَثْرَت الجانبَ التربويَّ والاجتماعيَّ عبر مراحل تاريخنا الإسلامي، يمكن أن يسهم في استعادة المساجد لدورها في القيام بعمل عظيم في تزكية النفوس، وتنوير العقول، ورفع مستوى الجماهير في جوانب شتى من حياتهم، فضلاً عن المشاركة في الحياة الاجتماعية والنهوض بالمجتمعات الإسلامية، والمساهمة في تحقيق التنمية الشاملة لها، وفيما يلي عرض لهذه النماذج : أ) المسجد النبوي : وكان من أهم دعامات الدولة الإسلامية في المدينة المنورة. وهو المؤسسة التعليمية الرسمية الأولى في المجتمع الجديد، وإن أغلب الوظائف التي ذكرناها في الأدوار التعليمية والتربوية للمسجد، كانت تتم بمسجد الرسول عليه السلام. كما روى المؤرخون أخبار حلقات علمية كانت تقوم به، وقد أثنى الرسول صلى الله عليه و سلم على الصحابة الذين تحلقوا حول أحدهم يتلو عليهم القرآن ويفقههم في الدين.
ب) الجامع الأموي في دمشق : شيده الوليد بن عبد الملك، وقد حدث في ولاية الخليفة عمر بن عبد العزيز أن جاء وفد في سفارة من قبل إمبراطور الروم، ورغبوا في زيارة المسجد، فوكل لهم "عمر" مرشداً يعرف لغتهم، فلما دخلوا المسجد ورأوا عظمته وبهاءه، نكس رئيس الوفد رأسه واصفر لونه، فسأله من معه عن حاله فقال : >إنا معشر أهل روما نقول : إن بقاء العرب قليل، فلما رأيت ما بنوا علمت أن لهم مدة لابد أن يبلغوها<. فلما وصل هذا الحديث إلى مسامع الخليفة عمر بن عبد العزيز قال : >وإني أرى أن مسجدكم أغيظ على الكفار< وترك ما عزم عليه من نزع لمظاهر الترف بالمسجد(1). وتُعَدُّ حلقة الصحابي أبي الدرداء في جامع دمشق من أقدم المدارس القرآنية في التاريخ الإسلامي. قال سويد بن عبد العزيز : كان أبو الدرداء إذا صلى الغداة في جامع دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه، فكان يجعلهم عشرة عشرة وعلى كل عشرة عريف، ويقف هو في المحراب يرمقهم ببصره، فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفهم ثم رجع إلى أبي الدرداء يسأله عن ذلك، وكان ابن عامر عريفاً على عشرة، فلما مات أبو الدرداء خلفه ابن عامر. وعن وسام بن مشكم، قال، قال لي أبو الدرداء : اعدد من قرأ عندي القرآن فأعددتهم ألفاً وستمائة ونيفاً كان لكل عشرة منهم مقرئ(1). وممن جلسوا للتدريس في هذا المسجد، الخطيب البغدادي سنة 456هـ، وكانت له حلقة كبيرة يجتمع إليه الناس فيها كل يوم ليقرأ لهم دروساً في الحديث. وكذلك حجة الإسلام الغزالي كانت له حلقة شهيرة، وقد أكمل كتابه "إحياء علوم الدين" في هذا الجامع(2).
ج) مسجد البصرة : ويعد من أوائل المساجد التي أنشئت بعد الفتوحات الإسلامية سنة 14هـ. وأول تجديد له تم سنة 44هـ على يد زياد بن أبيه عامل معاوية بن أبي سفيان على البصرة. ولقد قام هذا المسجد بدور بارز في النهضة العلمية والأدبية في العصر الأموي، وفيه جلس الكثير من الفقهاء والعلماء يلقون الدروس الدينية وغيرها، ومن أشهر من جلسوا للتدريس في مسجد البصرة : الحسن البصري، وكانت حلقته في هذا المسجد تضم العديد من القراء من بينهم تلميذه "واصل بن عطاء" الذي اعتزل مجلسه إثر خلاف وقع بينهما في مسألة عقيدية تتعلق بأفعال العباد الاختيارية، هل هي من خلق الله أو من خلق العبد بقدرة أودعها الله فيه ؟، الأمر الذي حذا بواصل إلى اعتزال حلقة الحسن البصري وتكوين حلقة أخرى في المسجد نفسه، كما كان هذا المسجد مقراً لعالم اللغة المعروف وواضع علم العروض "الخليل بن أحمد الفراهيدي" الذي ألف في هذا المسجد كتبه ومن أشهرها كتابه "العين"(3).
د) مسجد الكوفة : مدينة الكوفة تُعَدُّ ثاني مدينة أحدثت في الإسلام بعد البصرة، وبعد تخطيط المدينة كان المسجد بالطبع هو أول ما أنشئ فيها، فقد اختطه سعد بن أبي وقاص سنة 17هـ، ولقد أصبح هذا المسجد مركزاً مهماً من مراكز العلم، تدرس فيه علوم الفقه والدين واللغة. وقد جلس فيه علي بن أبي طالب يلقن الناس أصول الدين والفقه، وكذا عبد الله بن مسعود لتدريس القرآن الكريم. كما ظهرت فيه مدرسة للتفسير كان على رأس حلقتها "سعيد بن جبير" وعلي بن حمزة الكسائي. وفي هذا المسجد وضع "أبو الأسود الدؤلي" علم النحو بإشارة من الخليفة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. وفي مسجد الكوفة كانت تتلى على الناس كتب الخليفة، فكثيراً ما كان الوالي يبعث مناديه لينادي في الطرقات العامة لدعوة أهلها إلى الصلاة جامعة(1).
هـ) جامع المنصور ببغداد(2) : وقد تأسس سنة 145 هـ، وتم تأسيسه بأمر من الخليفة أبي جعفر المنصور، ويُعَدُّ أقدم مسجد أنشئ ببغداد، وقد أصبح من أشهر مراكز التعليم الإسلامي. وقد جلس إبراهيم بن نفطويه إلى أسطوانة بجامع المنصور لم يغير محله منها، كما كان الكسائي يجلس في هذا المسجد يدرس علوم اللغة التي اشْتُهِرَ بها وكان من تلاميذه الفراء.
و) جامع قرطبة بالأندلس : أسس هذا المسجد في عهد الأمير الأموي "عبد الرحمن الداخل" في الأندلس بمدينة قرطبة سنة 170هـ/786م، وأراد أن يجعله مماثلاً لجامع دمشق في الشام. وقد وصل به إلى مستوى من العمارة والفن إلى حد اعتبره العديد من الجغرافيين والأثريين والمؤرخين المسلمين أروع الأمثلة للعمارة والفن الإسلامي. ومن الناحية العلمية عُدَّ هذا المسجد أعظم جامعة إسلامية كانت تدرس فيها علوم الدين واللغة، ويفد إليها طلاب المسلمين والمسيحيين للدرس والتحصيل من غرب أوروبا، وكان ممن درس في هذا الجامع وتلقى علومه فيه الراهب "جيربير" أو "جيريدت" الذي أصبح باباً للفاتيكان فيما بعد باسم "سلفستر الثاني"(3).
ز) جامع القرويين في فاس بالمغرب : ويعود إنشاؤه إلى سنة 245هـ في القطاع الغربي لمدينة فاس في مكان يدعى عدوة القرويين. وفي عام 538هـ ابتدأت بهذا الجامع حلقات التدريس في علوم الفقه والشريعة، وفي عهد المرابطين ازداد ازدهار الجامع، وأصبح منذ ذلك الحين معهد علم ودراسة تخرج فيه الآلاف من المغاربة والأفارقة والأندلسيين في أجيال متعاقبة، وظل على مدى العصور حصناً للإسلام والعروبة، واجتذبت شهرته عدداً كبيراً من العلماء الأجانب من أنحاء أوروبا. وظل جامع القرويين أحد عشر قرناً مركزاً للتعليم، وإليه يرجع الفضل في جمع لغة القرآن وآدابها والعمل على ثرائها ونشر الدين الحنيف والحفاظ على تعاليمه السمحة. وفي عهد ازدهاره أضيفت إليه دراسة الفلسفة والطب والصيدلة والطبيعة والفلك، وكان التعليم فيه حراً، يختار الشيوخ والطلاب ما يشاؤون من المواد والكتب(1). وما لبث هذا الجامع أن أصبح جامعة مشهورة تقوم بواجبها في حرية تامة، ففي سنة 1931م، صدر مرسوم سلطاني يقسم التعليم بالجامع إلى ثلاث مراحل : الابتدائي والثانوي والعالي، كما تقرر جعله جامعة مؤلفة من ثلاث كليات وهي : الشريعة وأصول الدين واللغة العربية. وظل هذا الجامع معقلاً للتراث الإسلامي والحضارة العربية الإسلامية في شمال إفريقيا، كما أن فضل بقاء بلاد المغرب على طبيعتها العربية الإسلامية يرجع بالدرجة الأولى إلى هذه الجامعة.
ح) جامع عمرو بن العاص بالفسطاط : لأهميته البالغة كان يلي الإمامة والخطابة فيه أمير مصر، أو أحد الكبار المسؤولين كوالي الخراج أو القاضي أو صاحب الشرطة. ولقد نمت فيه الاهتمامات العلمية، وتعددت حلقات الدرس فيه، فضلاً عن دوره في خدمة الأهداف السامية للدولة الإسلامية. من أشهر الأساتذة لإفادة الناس في هذا الجامع(2) : 1. عبد الله بن عمرو بن العاص : كانت له حلقة يدرس فيها لعدد كبير من الطلبة مَتْناً وشَرْحاً. وهو أول من جلس للتدريس بهذا المسجد، والذي ألف فيه عدة كتب منها : "أقضية الرسول" و"أشراط الساعة". 2. الإمام الشافعي : قدم إلى مصر سنة 199 أو سنة 201هـ حيث كوَّن حلقة كانت أول مدرسة للفقه الشافعي، ومن مؤلفاته كتاب "الأم" في الفقه الشافعي، وكتاب "السنن" في الحديث، وبقي الشافعي في هذا المسجد يفيض على الناس من علمه حتى مرض مرضه الأخير. 3. محمد بن جرير الطبري : قدم إلى مصر ليدرس في هذا المسجد، وكانت له حلقات في التدريس والحديث والفقه واللغة والشعر.
ط) الجامع الأزهر : وقد أنشأه الفاطميون ليكون مسجداً رسمياً للدولة في حاضرتها الجديدة، ومنبراً لدعوتها الدينية ورمزاً لسيادتها الروحية، وعقدت أول حلقة للدراسة في الجامع الأزهر سنة 365هـ/975م. وقد عقدت أول حلقة علم بالأزهر يجلس فيها القاضي "علي بن النعمان القيرواني"، وقرأ في جمع حافل من العلماء مختصر أبيه في فقه الشيعة ويعرف هذا المختصر بالاقتصار(1). وتحول الأزهر من مسجد جامع إلى جامعة هي أقدم جامعات العالم بعد القرويين، وذلك في سنة 378هـ/988م، وكان هذا التحول على يد الوزير يعقوب بن كلس، وكان من كبار الدعاة للمذهب الشيعي، وبعد ذلك تحولت الدراسة فيه وفق المذهب السني إلى وقتنا هذا. وتوالت عليه العصور والأزمان، وما زال يحتفظ بدوره مؤسسةً تعليميةً لها أثرها في الحياة العملية في مصر وفي غيرها من البلدان الإسلامية ولدى الأقليات الإسلامية في أنحاء العالم. وكم حققت هذه المساجد من أمجاد في حياة أمتنا حتى غدا من رجالها من استطاعوا أن يزرعوا في الصدور والقلوب قوة خارقة بنت مجدنا الإسلامي التليد. خامساً : سبل الإفادة من المسجد في وقتنا الحاضر تبين لنا مما سبق كيف كان المسجد يؤدي أدواره التربوية والاجتماعية، وأنه حينما يأخذ مكانه الطبيعي الذي بني من أجله، وأراده الله له، يصبح من أعظم المؤثرات في نفوس المسلمين، فيقوي لديهم الشعور بالمجتمع المسلم والانتماء له والاعتزاز بجماعة المسلمين. إن مجالات العمل التي تتم داخل المسجد سوف تعمل بروح المسجد وقيمه وتصطبغ بصبغته، وفيما يلي بعضٌ من المقترحات التي يمكن أن تفيدنا من المسجد في الوقت الحاضر : ـ ضرورة العناية بالمساجد من حيث انتقاء الدعاة العاملين فيها الذين يدركون عبء الرسالة المنوطة بهم. ـ إتاحة الفرصة للعديد من المناشط التي يمكن ممارستها من خلال المسجد حتى لا يقتصر دوره على أداء الصلاة فقط، ولاسيما الرسالة التعليمية الجادة. ـ توفير العائد المادي المناسب للأئمة والدعاة الذي يمكنهم من العطاء دون الانشغال بأعمال أخرى تعوقهم عن الاطلاع وتثقيف أنفسهم. ـ عقد الدورات التدريبية المتخصصة للأئمة والدعاة كيما يستطيعوا مواكبة مستجدات العصر. ـ تزويد الأئمة والدعاة بالأساليب التربوية التي تمكنهم من الوقوف على مشكلات المجتمع، ومن ثم كيفية مواجهتها، وإقناع الجمهور بها. ـ الاستفادة من الأساليب التكنولوجية في المسجد، والتي تمكن من تحقيق أداء رسالته مثل الكمبيوتر وجهاز العرض العلوي والعرض فوق الرأسي. ـ تنظيم فصول محو الأمية بالمشاركة مع الجهات المختصة. ـ فتح مشغل لتعليم الفتيات والسيدات يلحق بالمسجد أو على الأقل يدار من خلاله إن تعذرت مجاورته للمسجد. ـ تنظيم فصول تقوية للطلاب بمختلف مراحل التعليم. ـ إعطاء الخطيب سلطة حقيقية في إدارة المسجد. ـ ألا يقتصر تقييم الإمام على الجانب الشكلي فقط. ـ إنشاء صندوق بالمسجد لتلقي مقترحات وشكاوى الجمهور. ـ إقامة لجنة لفضّ المنازعات في الحي أو القرية. ـ إقامة نادي المسلم الصغير بكل حي أو قرية يتبع المسجد. ـ معايشة خطب المساجد، وذلك من خلال توجيهٍ من الأوقاف، ووضع خطط سير لهم لمؤسسات مجتمعية مثل الأندية والمدارس ومواقع الإنتاج. ـ إنشاء مساجد للمؤسسات المختلفة ـ التعليمية والخدمية ـ تمثل زاداً روحياً للعاملين بتلك المؤسسات. ـ إحياء فكرة بيت المال، وذلك بعمل لجنة للزكاة داخل كل مسجد للقيام بهذا الأمر مع وجود كشوف بأسماء الفقراء والمحتاجين والمرضى. المراجع 1. إسحاق أحمد فرحان : التربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة، دار الفرقان، الأردن، عمان، 1404هـ/1983م، ص 77-49. 2. جاد الحق علي جاد الحق : المسجد إنشاءً ورسالةً وتاريخاً، الأزهر، القاهرة، 1416هـ. 3. خير الدين وائلي : المسجد في الإسلام ورسالته، نظام بنائه، الإسكندرية، مكتب الفرقان، 1980م. 4. سعيد إسماعيل علي : معاهد التعليم الإسلامي، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1978م، ص 95، وأيضاً سعاد ماهر محمد : مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، ط. القاهرة، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1391هـ/1971م. 5. عبد البديع عبد العزيز الخولي : الفكر التربوي في الأندلس، دار الفكر العربي، 1985م. 6. عبد البديع الخولي : محاضرات في التربية الإسلامية، كلية التربية، جامعة الأزهر، 1984م. 7. عبد الرحمن النحلاوي : أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع، دار الفكر العربي، ص 256-185. 8. عبد الله عبد الخالق المشد : وظيفة المسجد في المجتمع المعاصر، الأزهر، مجمع البحوث الإسلامية، المؤتمر الخامس، 1970. 9. عبد الله ناصح علوان : تربية الأولاد في الإسلام، ج 2، ط. 9، القاهرة، دار السلام للطباعة والنشر، 1985م. 10. عبد المعطي بهجت : رسالة المسجد، القاهرة، دار الأنصار. 11. لطيفة إبراهيم رزق خضر : نحو نظرة علمية لموقف التربية تجاه التطرف لدى بعض الشباب للمجتمع المصري، المؤتمر الدولي للعلوم الاجتماعية ودورها في مكافحة جرائم العنف والتطرف في المجتمعات الإسلامية، ج 4، 1998م. 12. مجاهد توفيق الجندي : دراسات وبحوث في تاريخ التربية الإسلامية، القاهرة، دار المعارف، 1984م. 13. محمد بن علوي المالكي الحسيني : أصول التربية الإسلامية، سلسلة البحوث الإسلامية، مجمع البحوث الإسلامية، السنة الرابعة عشرة، الكتاب الأول، 1984م. 14. منصور الرفاعي عبيد : المسجد ومكانته والإمام ورسالته، القاهرة، 1980م. 15. منير المرسي سرحان : في اجتماعيات التربية، ط. 2، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية. 16. يوسف القرضاوي : ثقافة الداعية، القاهرة، مكتبة وهبة، 1406هـ/1986م، ص 17-23. |
أطبع
الدراسة |
أرسل الدراسة لصديق
|
|