فهرس الموضوعات

حقوق الانسان والطفل

حُقوق الإنْسَان في الاسلام

ميثاق الطفل في الإسلام

اتفاقية حقوق الطفل

أيـــــذاء الـطـفـل

ماهو؟ من؟ لماذا؟ كيف؟

الاعتداء العاطفي

الاعتداء الجسدي

الاعتداء الجنسي

الإعتـداء بالإهـمـال

الإعتداء على الطفل الرضيع

العـنف الاســري

التعريف والتشخيص

مظاهره ومعالجاته

الوقــــايـة

العنـف المـدرسـي

المظاهر، العوامل، العلاج

العقاب البدني واللفظي

العنف في الاعلام

التأثير على الأطفال

إشكالية العنف في الإعلام

وسائل الترفيه للطفل المسلم

الإعاقة والأعتداء

عوامل الخطورة

الاعتداءات الجنسية

التربيه الجنسيه والتعامل الاجتماعي

التربية الجنسية للأطفال والمراهقين ذوي الاحتياجات الخاصة

منوعـــــــــــــــات

قوانين وتشريعات

مطويات ونشرات

مختارات من المكتبات


الدراسات
المكتبة

العنف الأسري…يصنعه الآباء ويصدره الأبناء والثمن يدفعه المجتمع

الكاتب : إبتهال قدور

القراء : 10372

العنف الأسري…يصنعه الآباء ويصدره الأبناء والثمن يدفعه المجتمع

 
كتبه: إبتهال قدور
 
قضية لم تعد خاصة..! وظاهرة لم تعد متسترة خلف أبواب وجدران المنازل، بما أنها - بذاتها أو بآثارها - قد خرجت وبصور مرعبة الى المجتمع.
و من المؤلم جداً أن يباغتك خطر كنت تظن أن بينك وبينه مسافات طويلة، وكنت تظن أنك في منأى عنه، لابسبب عصمة أنت فيها، ولكن بسبب منظومة متكاملة من القيم التي طالما تمسكت الأسرة العربية بها، فأكسبتها الكثير من أسباب المناعة ضد مختلف الاعتلالات والأمراض المؤثرة على استقامة مجتمعاتها بشكل عام .
 
من الأسرة ينبع العنف
وحين نتطرق لقضية العنف الأسري، ندرك بكل تأكيد أن أسباباً كثيرة تقبع خلفها ، وأن جهات عديدة تتحمل المسؤولية فيها، بينما تعمل جهات أخرى على تنميتها وربما الترويج لها بأساليب منها ماهو مباشر ومنها ماهو غير مباشر، إلا أنه لامهرب من اتهام الأسرة والإشارة اليها بأصابع المسؤولية الكبرى في تفاقم هذه القضية، لماذا؟
أولاً --لأن هناك حقيقة تربوية مفادها أن الخمس سنوات الأولى من حياة الطفل، هي الأكثر أهمية في تشكيل شخصيته، وتأسيس بنيته النفسية، والعقلية..
وثانياً--  لقناعتنا بأن الطفل في هذه الفترة، إنما يكون شديد الالتصاق بأبويه، فهو بين أحضان أسرته، وفي بيته، ينهل ماتقدمه له هذه الأسرة، وتكون هنا حواسه كلها متيقظة تلتقط وتخزن كل مايُسمع، ومايُرى، ومايُفعل، ليتشكل بذلك مخزونه الخاص الذي سيكوِّن منظومته السلوكية فيما بعد …
فالأسرة إذاً تنفرد في هذه الفترة العمرية الهامة والأساسية والمصيرية، في التأثير على صغارها، وتمتلك حرية تشكيلهم حسبما تراه، لايشاركها - تقريباً - أي من المؤثرات الخارجية الأخرى.

وخصوصية هذه المرحلة التربوية، التي تضع الآباء في مقدمة المؤثرين، وتصنف الأبناء على أنهم كالعجينة التي تنتظر التشكيل، لما لهم من استعدادات التلقي ببراعة، هو أكثر مايضع الأسرة في قفص الاتهام، حين يتم الحديث عن الأجيال وانحرافاتها الثقافية، وضعف أداءها الحضاري.
وتلقي هذه الحقيقة التربوية أيضاً بمسؤولية كبيرة على عاتق الآباء، يجدر بها أن تحثهم على وضع كل تصرفاتهم، وسلوكياتهم، وأحاديثهم تحت مجهر التقييم، مراعاة لشخصيات صغيرة وبريئة، تتكون وتتشكل تحت تأثير حركاتهم وسكناتهم.
ولكن هذه المسؤولية الملقاة على عاتق الآباء، ليست دعوة للتمثيل أو التكلُّف أو التظاهر، لأنه من غير المنطقي ولا المقدور عليه أن يتم هذا الأمر على مدى أعوام طويلة هي أعوام التربية ومسؤولياتها - لاسيما إذا ماأيقنا أن الطفل يستطيع التمييز بين ماهو حقيقي وما هو متصنع- إنما علينا أن نعتبرها دعوة لإصلاح النفس وتعديل السلوكيات وإعادة النظر في مايجب علينا أن نقوم به لنصبح فعلياً القدوة الحسنة لأبنائنا ..
ولايخلو تراثنا حقيقة، من أدبيات مشابهة لما أقول، فقد عرف عن كثير من العلماء والفقهاء، أنهم كانوا يرفضون الوعظ في قضية أو التطرق اليها، ماداموا هم واقعون فيها، فيقومون بإصلاحها في ذواتهم، وفي أسرهم، ثم يتناولونها بالنهي والتوجيه بعد ذلك، مقدمين بهذا السلوك المثال الواقعي على صلابة القدرة والإرادة البشرية، إذا ماتم تفعيلها، معترفين قولاً وفعلاً، شكلاً ومضموناً، بأهمية القدوة الحسنة في الأنفس البشرية على اختلاف أعمارها وأحوالها…
وإذا ماكان ذاك هو حال الوعاظ والعلماء، فمن باب أولى أن يتبع الآباء اليوم هذا النهج، وهم المسؤولون عن تربية أبنائهم الذين سيشكلون مستقبل هذه المجتمعات..
 
لامهرب من العودة الى الذات
وأمام قضية العنف الأسري، الذي بات قضية تفسح مجال التدخلات أمام قوىً خارجية، وتعطيها مبررات الخوض في شؤون ثقافتنا وقيمنا، يصبح من الضروري ومما لاغنى عنه مراجعة الأسرة لذاتها، والعودة الى تقييم أوضاعها، إذا ماكانت تحرص على أن تبعد طيف العنف والعدائية عن أبنائها …وبالتالي عن السمجتمع، وإذا ماكانت تهتم لأمر منظومتها الأخلاقية التي تنهار أمام أعينها لبنة بعد لبنة.
يجدر بنا أن نفعل هذا قبل أن تبلغ النسب عندنا مبلغاً لايحتمل، حجماً ونوعاً، فمازالت وسائل الإعلام تضع أمام أعيننا حالات مستهجنة وبغيضة، لمستويات الجرائم التي لايقبلها عاقل، جرائم من النوع الذي يستحوذ على كل علامات الاستفهام والتعجب لدينا!!!؟؟
نعم… مراجعة الأسرة لذاتها وتصحيح مسارها عملياً، عاد من الأمورذات الحاجة الماسة لأنه لا أمل من كلمات لاتقترن بأفعال، ولافائدة من عبارة "لاتصرخ في وجه أختك" إذا ماكان يقابلها بوضوح صرخات متكررة واضحة من الأب في وجه الأم..
ولا أمل يرتجى من عبارة : "كم مرة قلت لك أن لاتضرب أخاك الصغير" إذا ماكان أسلوب الضرب كوسيلة للتربية هو الأسلوب الأبرز والأعلى صوتاً.
إننا هنا نتعب أنفسنا في أوامر نهي، لم نستطع أن نحولها نحن أنفسنا الى حقائق ممكنة على أرض الواقع الأسري.
لم نستطع أن نقدم لأبنائنا صورة سليمة للتعامل، بينما رحنا نطلب منهم أن يستحضروا هم هذه الصورة!!
كيف سيستحضرونها ؟ ومن أين ؟ ولماذا ؟ هم لايعلمون …هم يسمعون احتجاجات الكبارعلى صورة تعاملية تكاد تكون الصورة الوحيدة التي يشاهدونها ويخضعون لسطوتها داخل الأسرة، "ما لهؤلاء الكبار يأمروننا بما لم يفعلوه ومالهم يطلبون منا مالم يقدروا عليه ؟؟؟!!"… هكذا تتساءل عقولهم الصغيرة المشبعة ذكاءاً.
لاجدوى إذاً، من أوامر لم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأفعال في العملية التربوية، ولا مفر إذاً، من إعادة تقييم سلوكياتنا، والتزامنا بما نحاول فرضه، وإلا ظهرنا بمظهر المتهالك الضعيف، وقدمنا مثالاً حياً للتناقضات، ووجّهنا دعوة صريحة لأن يعيش الفرد عالمين أحدهما أقوالاً والآخر أفعالاً..

إننا حين نختار العنف كنمط سلوكي عام داخل أسرنا، نُحدِث كارثة على المستوى التربوي.. لأننا بممارسته، سواء تجاه بعضنا بعضاً، أم تجاه صغارنا، أم تجاه الخدم، أم تجاه أي كان، نعمل على صياغة شخصيات متربصة للعنف، تنتظر الموقف الذي سيتيح لها ممارسته، وإن لم يوجد الموقف، توجده هي… بداية تبدأ الممارسات داخل الأسرة ثم تزحف لتطال كل من أمكن خارج الأسرة…
وبهذا تكون الأسر هي التي تصنع وتصدر العنف على غفلة وجهل منها، وحين نرى الفاتورة الفظيعة التي يسددها المجتمع بمختلف أفراده، نروح نبحث عن من نكيل إليه التهم…مبتعدين عن المتهم الحقيقي .
 
أجهزة الإعلام بما تقدمه ليست بريئة، وقد أشبعت أدوارها بحثاً واتهاماً وهجوماً، وللحقيقة، فهي تستحق الكثير من ذاك الهجوم، لكن لايسعنا إلا أن نعود الى الحقائق والأبحاث التي تدل على أن تأثر الطفل بالمشاهدات الواقعية، الماثلة أمامه صيغاً حية، يخضع لها هو شخصياً، ويخضع لها المقربون منه كأمه وإخوته، هي أشد وقعاً من تلك المشاهدات التي يراها على شاشة التلفزيون…
نضيف أن شاشة التلفزيون، نحن من نمتلك جهاز التحكم الخاص بها، وبإمكاننا من ثمة إيقاف ومنع غير المناسب مما يعرض عليها( بعد إيجاد البدائل)، ولكن كيف لنا أن نمنع ما نقوم به نحن بأجسادنا الملموسة ؟!
إن الخطأ الذي نمارسه في أسرنا، هو أننا أثناء مراحل التلقي الأولى للطفل والمتمثلة في الخمس سنوات الأولى من عمره، نقدم له صوراً حية للعنف وأنماطاً مختلفة من ممارساته كالعنف اللفظي، والعنف النفسي، والعنف الجسدي، فيتشبع بها وهو في أخطر مراحل التشكيل، وعندما يكبر ويصبح التلفزيون من اهتماماته، يثبِّت تلك الصور التي قدمتها له الأسرة بالمشاهدة التلفزيونية، من أفلام عنيفة تقتل فيه رهافة الحس، ومشاهد مفزعة تدمر فيه دفء المشاعر، فتكتمل بذلك الصورة العنيفة في ذهنه، بما أن مشاهداته "الجديدة" عبر الشاشة ترسخ مخزونه من المشاهدات "القديمة الجديدة" عبر الأسرة !
والحقيقة الصارخة التي يتحتم علينا قبولها والتعامل معها بجدية أكبر، هي أن جهاز التحكم الخاص بالشاشة الصغيرة ليس كبير نفع، إذا ماكنا لانمتلك جهاز التحكم الخاص بأنفسنا، كلاهما مهم، وفقدان أي منهما يعرض أبناءنا لخطر اكتساب العنف وممارسته والترويج له..
 
هل بلغت القضية حد الخطر !?
لانجازف حين نعترف بضآلة الدراسات العربية التي تتطرق لهذه القضية، مما يعني ندرة واضحة في الإحصائيات الدقيقة والحقيقية المتصلة بالموضوع..وعلى خلاف مايحدث في الغرب من تعرية لأوجه المشكلة، بهدف ايجاد مخارج لها، تصر مجتمعاتنا على التعتيم على مثل هذه القضايا الى أن يأتيها الضغط من الخارج، هذا الخارج الذي سيفرض علينا نمطه هو في "الإصلاح"، ثم يستثمر النتائج لصالحه محققاً من خلالها مكاسب على مختلف الأصعدة، سواء الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية..
وبديهي أن نسب العنف المعلنة في المجتمعات الغربية تثير الذعر، ونحن إذ نهتم بهذه النسب ليس من باب الاهتمام المباشربتلك المجتمعات، لكن من باب الحيطة والحذر لما يمكن أن يزحف الينا، في خضم الزحف الثقافي الذي لم يعد يعترف بحدود، والذي لايخلو من غلو، وتطرف، وابتذال..
ففي آخر إحصائية نشرتها مجلة "le nouvel observateur" الفرنسية في عددها ليوم 12 نوفمبر 2007، تبيَّن أن 2 مليون شخص بالغ تعرض للعنف الجسدي أو الجنسي في فرنسا خلال العام2005 - 2006- أي مانسبته %5,6 من مجموع الفئة البالغة 18 عاما وما فوق.
وجاء في تقرير صندوق الأمم المتحدة للتنمية النسائية " يونيفم " أن %30 من النساء في المملكة المتحدة يتعرضن للأذى الجسدي على يد شركاء حياتهن أو شركاء حياتهن السابقين؛ وتتعرض لمثل ذلك 29 % في كندا، و 22 % في الولايات المتحدة.
أما في عالمنا العربي فإن الإحصائيات المتواضعة والمتوفرة لدينا تشيرإلى وجود مشكلة حقيقية …
ففي الكويت 40 ألف حالة طلاق من بين 46 ألف حالة تتم بسبب العنف الأسري، وتحديدا عنف الزوج!!
وفي مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية ذكر التقرير السنوي لوحدة الإرشاد الاجتماعي في وزارة العمل والشئون الاجتماعية لعام (1422هـ) أن عدد المشكلات الواردة للوحدة كانت (527) مشكلة زوجية بنسبة (16.30%) و (585) مشكلة أسرية بنسبة (18.13%).وهذا يعني ما مجموعه (1112) مشكلة أسرية بنسبة(34.43%)في عام واحد. وفي التقرير السنوي لوحدة الإرشاد الاجتماعي في وزارة الشؤون الاجتماعية نفسها عام( 1424هـ) بعد انفصالها عن وزارة العمل ظهر أن عدد المشكلات الواردة للوحدة كانت (2245) مشكلة زوجية بنسبة (30%) و (1501) مشكلة أسرية بنسبة 20% وذلك في عام واحد كذلك، وهذا يعني ما مجموعه 3746 مشكلة أسرية بنسبة (50%) كذلك في عام واحد، مما يدل على أن حالات العنف الأسري في ازدياد مستمر!!
في الضفة الغربية في فلسطين المحتله، بلغت نسبة العنف الجسدي ضد النساء 7ر23 بالمئة وفي قطاع غزة بلغت 6ر22 بالمئة بينما اختلفت النسبة بين النساء اللاتي تعرضن للعنف النفسي فوصلت في قطاع غزة الى 8ر68 في المئة بينما وصلت الى حوالي خمسين بالمئة في الضفة الغربية خلال عام 2005.
وفي سوريا سيدة من بين أربع سيدات تتعرض للعنف.
وحين نتوجه ناحية المغرب العربي، والجزائر تحديداً نجد أن ممارسة العنف الأسري أمر منتشر تقريباً في كل البيوت.
وكذلك ترتفع النسب في العراق وفي مصر وفي مختلف الدول العربية والإسلامية، ولعل أكثر مايثير الاستنكار هو ارتفاع هذه النسب في مجتمعات يدين معظم أهلها بدين يوصي بالرفق في الأمر كله…
الأمر الذي يؤكد الشكوك في وجود مشكلة حقيقية، يتوجب علينا تتبعها بكل جدية والعمل على حلها بمختلف الوسائل والطرق الحضارية المتاحة.
 
العنف الأسري… والجهل
ليس من الموضوعية حصر أسباب المشكلة في أمر واحد، حتى ونحن نتحدث عن دور الأسرة ومسؤوليتها الكبرى، ولكن لابأس من إلقاء بعض الضوء على مدى ارتباط هذه القضية بالجهل … الجهل الذي لايأخذ هنا وجهاً واحداً بل أوجهاً متعددة.
فهل للجهل علاقة مباشرة وأكيدة بالعنف الأسري؟؟
خلصت دراسة ذات صلة بالموضوع تقدمت بها الدكتوره "أفراح جاسم" من العراق الى أن: "نعم هناك صلة وثيقة بينهما، كما أن له علاقة بالمستوى التعليمي فأكثر من يمارس عليهن العنف هم من اللائي لم يكملن مراحل تعليمية متقدمة".
لكننا لو حاولنا التوسع وعدم الوقوف عند المستوى التعليمي فحسب، لوجدنا أن القضية لها حتما ارتباط بالجهل…
 
الجهل بأساليب التربية:
لأن هناك فئة موجودة في مجتمعاتنا لم تطلع على الحد الأدنى من المعلومات المتعلقة بتربية الأطفال، ولاتعرف عن هذه النفس الانسانية الصغيرة أبسط مايتوجب عليها معرفته، وليس هذا فحسب بل هي - ومع كثير من الحسرات- لاتعترف بغير العنف وسيلة للتربية، ولاترى أنسب منه في تقويم مايعتقد أنه سلوك غير حسن، ويدافع أبطال هذه الفئة عن أسلوبهم ذاك بكل حماس، ضاربين الأمثلة بطرق تربوية عنيفة مورست عليهم من قبل آبائهم، فهم يستحضرون تلك الطرق بدون أن يستحضروا ماسببتها لهم من ألم، ويقومون بإسقاطها على أبنائهم، ويحدث هذا عادة تحت تأثيرعوامل عديدة، أبرزها عاملين: الجهل، وأمراض نفسية تتلبسهم بدون أن يعلموا ذلك.
 
الجهل برأي الدين:
مع أن ديننا جاء لنشر الرحمة والرأفة، ومع أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أوصى السيدة عائشة قائلا لها: "عليك بالرفق في الأمر كله، فإن الرفق ماكان في شيء إلا زانه وما خلا من شيء إلا شانه"، ومع أنه عليه الصلاة والسلام استنكر أن تُضرَب أو تعنف الزوجة أول النهار ثم تعاشر آخره، ومع أنه نهى عن ضرب الوجه وتقبيحه، ومع أنه قرر أن خيرالرجال هو خيرهم لأهله، ومع أنه قدم على ذلك المثال العملي الحي فلم يعنف أو يغلظ على زوجة أو ولد أو حتى خادم، ومع أن حبه ومعاملته لسبطيه الحسن والحسين رضوان الله عليهما جعلته يطيل السجود لكي يستمتعوا باللعب على ظهره لفترة أطول، ومع أنه أثبت أن حتى الموت لم يغير من إخلاصه ولم يبدل من أمر حبه لزوجته خديجة شيئاً، فظل يذكرها بالخير ويثني عليها ويكرمها بإكرام صديقاتها وأخواتها من بعدها، ورغم أن دموعه الطاهرة سالت حزنا على ابنه ابراهيم، ورغم أنه بكل عظمة الانسانية وحلمها، يبتسم ويقول لأصحابه: "غارت أمكم" يقصد السيدة عائشة، حين أقدمت على كسر آنية بها طعام أحضرتها له إحدى زوجاته وهو مع أصحابه!
ورغم أن القرآن أقرّ قاعدة عظيمة للعلاقة الزوجية: "إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، هذا بالإضافة الى ما يصعب حصره هنا، فيما يتعلق بوصايا هذا الدين للحفاظ على دفء العلاقة الأسرية وإشاعة الحب والرفق والرحمة فيها، لكننا على الرغم من كل ذلك، نجد أن هناك من يعتقد أن من حقه الشرعي تعنيف المرأة، وتأديبها، وضربها الضرب المبرح الذي كثيراً مايؤدي الى عاهات جسدية، وآلام نفسية، لاتشفى منها بسهولة. كما يجد أن من حقه أن يربي أبناءه بالطريقة التي يريد فهو يمتلكهم ويمتلك حق أن يفعل بهم مايشاء!!
وقد اتضح من جميع الدراسات التي أجرتها الدول العربية حول ظاهرة العنف الأسري في مجتمعاتها، أن أكثر من يُضربن هن من النساء وتبين الإحصائيات أن الزوج يقع في طليعة المُعتدين، وأن الزوجة هي الضحية الأولى، وأن الزوج بالتالي هو المعتدي الأول. وعلى سبيل المثال، تصل نسبة الزوج المعتدي في المجتمع المصري إلى 9.71 % حسب دراسة أجراها المركز القومي للبحوث في مصر. ويمارس الرجل عادة حقه في إيقاع العنف على المرأة، أكانت زوجة أو أماً أو ابنة أو أختاً. وتبلغ نسبة الآباء الذين يمارسون العنف في مصر حسب الدراسة السابقة 6.42% فيما تبلغ نسبة الأخ المعتدي نحو 37%.
أما في السعودية، فدلت الدراسات أن 90 % من مرتكبي حوادث العنف الأسري هم من الذكور، وأن أكثر من 50 % من الحالات تخص الزوج ضد زوجته.
 
الجهل بأساليب التعامل مع الآخر:
كيف نتعامل مع الآخر…قضيةٌ مهملة في مجتمعاتنا، فكلّ يتعامل حسب ثقافته الشخصية، وحسب البيئة التي نشأ فيها، وأيضا حسب حالته المزاجية، لكن الخروج الى المجتمع والنجاح في العلاقات، لابد وأنه يتطلب أسلوباً علمياً يخضع لضوابط وأخلاقيات تجعل الآخر يتقبلنا ويحب التعامل معنا، أو على الأقل لايستهجننا ويتهرب منا. قيم كثيرة نحن نعلمها ولكننا لم نتعلمها وهناك فرق، أن تعلم الشيء هو أن تدرك صحته وجدواه نظرياً، ولكن أن تتعلمه فتلك قضية تحتاج الى ممارسة، وصبر ونفس طويل!
ولا تتطرق المدارس الى هذا النوع من العلوم كما لاتتطرق الى علوم كثيرة أصبحت لها أهمية كبيرة في هذا العصر، لكأنها مازالت لاترى لها أهمية أو ضرورة! هذا بالنسبة للخروج الى المجتمع، فكيف نحن بزوج وزوجة جاء كل منهما من بيئة مختلفة وثقافة مختلفة ومزاج مختلف، سيشتركان في بيت وحياة وأولاد!!
لاشك في أن الأمر يحتاج الى إعادة نظر، فنحن نرى قصوراً كبيراً في هذا الجانب لدى الأزواج تجاه بعضهم بعضاً من جهة، ولدى الآباء تجاه أبنائهم من جهة أخرى، ويتسبب هذا الجهل بكل تأكيد في الكثير من أسباب العنف الأسري ..
 
الجهل بنتائج العنف وآثاره على الأنفس والمجتمعات:
من المؤكد أن الكثير من الأزواج أو الآباء الذين يوقعون العنف على زوجاتهم أو أبنائهم لايدركون فعلياً مخاطر مايقومون به، ولايتصورون مايمكن أن يُحدِث من آثار على نفوسهم، فما من زوج عاقل يتطلع الى فقدان حب زوجته، ونفورها منه وقسوتها عليه، وما من أب عاقل، يريد أن يضر بأبنائه، ويسبب لهم الأذى، هو حين يستخدم أحد الأساليب العنيفة يقوم بذلك لأنه يعتقد أن المصلحة تكمن في هذا، وأنه بذلك يجعل منهم رجالاً قادرين على مواجهة المستقبل! لكننا لو تتبعنا النتائج الوخيمة التي يخلفها العنف في أنفس النساء لأيقنّا أن كل الأزواج الذين يمارسون العنف مع زوجاتهم، هم يعيشون حقيقة مع أطلال زوجات، بنفسيات مدمرة، وقلوب محطمة، وأنفس ضعيفة بلا مناعة ولا مقاومة، قابلة للانجراف وراء أي إغراء.
ولو أننا تتبعنا آثار ذلك العنف على نفسيات الأبناء، لأدركنا أنه السبب لأكثر العقد النفسية والمشاكل الاجتماعية والإجرامية!
فهل يعلم الآباء حجم الخطأ المرتكب في حق أبناء يحد العنف من ذكائهم، وإبداعهم وعطائهم، فيحرمون المجتمع منها..وهل يعلمون إلى أي جحيم قد يدفعون بفلذات أكبادهم هرباً من المعاناة! ترى لو أن الأزواج والآباء أدركوا ذلك هل كانوا سيستمرون في عنفهم ذاك؟؟!!
 
الجهل بأساليب التحكم بالنفس:
العمل على النفس… هو واحد من الأفعال الجبارة! تهذيبها، وتربيتها، وضبطها، وتحميلها المسؤوليات المناطة بها، أليس هذا ماأسماه الأولون الجهاد الأكبر!!
إن من يضع لنفسه خطة مبنية على علم، ثم يلزم نفسه بالعمل على إنجازها، يستطيع أن يحقق نجاحاً كبيراً في مختلف شؤون حياته. لكن الكثير من مشاكلنا تنبع من عدم معرفتنا بأساليب تمكننا من السيطرة على أنفسنا عند الحاجة لذلك، فالكثير منا صنّف نفسه، وأقفل على ذلك التصنيف باباً موصداً.. "أنا عصبي"، أو "أنا لاأحتمل هذا الأمر"، أو "هذه نقطة ضعفي"، "هذا التصرف يفقدني صوابي"، الى آخر ماهنالك من أسوار تعزلنا عن قدراتنا الحقيقية في السيطرة على أمزجتنا والتحكم في أنفسنا، كثيرون أولئك الذين يعلمون أن في العنف والقسوة شراً وضرراً، لكنهم لايستطيعون ضبط أنفسهم للتقيد بما يعلمون، يقطعون الوعود، ويقسمون أن لايعودوا لكنهم سرعان مايعودون، يغلبهم مزاج اعتادوا عليه. ثم يستسلمون معتقدين أنهم "هكذا" لايستطيعون أن يتغيروا، ولا يعلم هؤلاء أن هناك من الأساليب العلمية، التي لو أنهم أحاطوا بها لاستطاعوا تغيير ما بأنفسهم من ضعف أوانفلات أوعصبية، ولاستطاعوا الابتعاد عن العنف فأنقذوا بذلك أسرهم ورحموا مجتمعاتهم..
لا غنى والحال هذه من تكاتف مؤسسات المجتمع، بهدف إحداث توعية شاملة للأسرة العربية، تمكنها من إعادة صياغة نفسها وترتيب أوراقها حسب معطيات حضارية تحفظ الأجيال وتطرد عن المجتمعات شبح العنف الذي راح يتهددها.
يبدو أننا لكي نتجنب العنف في مجتمعاتنا، بحاجة الى إعادة تعريف للجهل، من أجل تتبعه والقضاء عليه في مختلف صوره، حينها لن تسعدنا أعداد حملة شهادات علمية غير مقرونة بشهادات نجاح في التعامل مع النفس ومع الآخر..
 
ابتهال قدور
 

 أطبع المقال أرسل المقال لصديق


[   من نحن ? |  البوم الصور | سجل الزوار | راسلنا | الصفحة الرئيسية ]
عدد زوار الموقع : 6336372 زائر

مجموعة المسـاندة لمنع الاعتداء على الطفل والمرأة

جميع الحقوق محفوظة